(
المعرفة بالشئ خيرٌ من الجَهْل بـهِ)
النص الكامل في حَــدِّ
الــخمر لإبن تيمية من كتاب
" السياسة الشرعية
"
"أما حد الشرب : فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإجماع المسلمين ، فقد روى أهل السنن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من وجوه أنه
قال : « من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن
شرب الرابعة فاقتلوه » . وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة ، هو وخلفاؤه والمسلمون
بعده . والقتل عند أكثر العلماء منسوخ . وقيل : هو محكم ، يقال : هو تعزير يفعله
الإمام عند الحاجة . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أنه ضرب في الخمر
بالجريد والنعال أربعين . وضرب أبو بكر -رضي الله عنه- أربعين ، وضرب عمر في
خلافته ثمانين » ، وكان علي -رضي الله عنه- يضرب مرة أربعين ، ومرة ثمانين . فمن
العلماء من يقول : يجب ضرب الثمانين ، ومنهم من يقول : الواجب أربعون ، والزيادة
يفعلها الإمام عند الحاجة ، إذا أدمن الناس الخمر . أو كان الشارب ممن لا يرتدع
بدونها ، ونحو ذلك . فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون . وهذا
أوجه القولين ، وهو قول الشافعي وأحمد ، رحمهما الله في إحدى الروايتين عن أحمد .
وقد كان عمر -رضي الله عنه- لما كثر الشرب- زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في
الزجر عنه ، فلو غرب الشارب مع الأربعين لينقطع خبره ، أو عزله عن
ولايته كان حسناً ، فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بلغه عن بعض نوابه أنه تمثل
بأبيات في الخمر فعزله . والخمر التي حرمها الله ورسوله ، وأمر النبي صلى الله
عليه وسلم بجلد شاريها ، كل شراب مسكر من أي أصل كان ، سواء كان من الثمار كالعنب
، والرطب ، والتين . أو الحبوب ، كالحنطة ، والشعير . أو الطلول كالعسل . أو
الحيوان ، كلبن الخيل ، بل لما أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله
عليه وسلم ، تحريم الخمر ، لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء ؛ لأنه لم يكن
بالمدينة شجر عنب ، وإنما كانت تجلب من الشام ، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر ،
وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه -رضي الله
عنهم- أنه حرم كل مسكر ، وبين أنه خمر . وكانوا يشربون النبيذ الحلو ، وهو أن ينبذ
في الماء تمر وزبيب أي يطرح فيه ، والنبذ : الطرح ليحلو الماء لا سيما كثير من
مياه الحجاز ، فإن فيه ملوحة ، فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين ؛ لأنه لا يسكر ،
كما يحل شرب عصير العنب قبل أن يصير مسكراً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد
نهاهم أن ينبذوا هذا النبيذ في أوعية الخشب ، أو الجري ، وهو ما يصنع
من التراب . أو القرع ، أو الظروف المزفتة ، وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تربط
أفواهها بالأوكية ؛ لأن الشدة تدب في النبيذ دبيباً خفيفاً ، ولا يشعر الإنسان ،
فربما شرب الإنسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة ، وهو لا يشعر ، فإذا كان السقاء
موكى ، انشق الظرف ، إذا غلى فيه النبيذ ، فلا يقع الإنسان في محذور ، وتلك
الأوعية لا تنشق . وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم رخص بعد هذا في الانتباذ في
الأوعية ، وقال : « كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ، ولا تشربوا
المسكر » فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، منهم من لم يبلغه النسخ أو لم
يثبته ، فنهى عن الانتباذ في الأوعية . ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص في
الانتباذ في الأوعية . فسمع طائفة من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ
فاعتقدوا أنه المسكر ، فترخصوا في شرب أنواع من الأشربة التي ليست من العنب والتمر
، وترخصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب . والصواب ما عليه
جماهير المسلمين : أن كل مسكر خمر ، يجلد شاربه ، ولو شرب منه قطرة واحدة ، لتداوٍ
أو غير تداوٍ ، « فإن النبي
صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يتداوى بها ، فقال : " إنها داء وليست بدواء
، وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها » . والحد واجب إذا قامت البينة ، أو
اعترف الشارب ، فإن وجدت منه رائحة الخمر ، أو رؤي وهو يتقيؤها ونحو ذلك . فقد ميل
: لا يقام عليه الحد ، لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر ، أو شربها جاهلا بها ، أو
مكرهاً ونحو ذلك . وقيل : بل يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر ، وهذا هو المأثور عن
الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة : كعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ؛ وعليه تدل سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يصلح عليه الناس ، وهو مذهب مالك . وأحمد
في غالب نصوصه ، وغيرهما . والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا ، يجلد
صاحبها كما يجلد ضارب الخمر ، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج ،
حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة ، وغير ذلك من الفساد ، والخمر أخبث من جهة أنها
تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة ، وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة . وقد
توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها ، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد ؛ حيث ظنها
تغير العقل من غير طرب . بمنزلة البنج ، ولم
نجد للعلماء المتقدمين فيها كلاماً ، وليس كذلك ، بل آكلوها ينشون
عنها ، ويشتهونها ، كشراب الخمر وأكثر . وتصدهم عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، إذا
أكثروا منها ، مع ما فيها من المفاسد الأخرى : من الدياثة والتخنث ، وفساد المزاج
والعقل وغير ذلك . ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شراباً ، تنازع الفقهاء في
نجاستها ، على ثلاثة أقوال : في مذهب أحمد وغيره . فقيل : هي نجسة كالخمر المشروبة
، وهذا هو الاعتبار الصحيح . وقيل : لا ؛ لجمودها . وقيل : يفرق بين جامدها
ومائعها . وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً ومعنى
. « قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- يا رسول الله! أفتنا في شرابين كنا
نصنعهما باليمن : البتع ، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد ، والمزر وهو من الذرة
والشعير ينبذ حتى يشتد . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع
الكلم وخواتيمه . فقال : " كل مسكر حرام » . متفق عليه في الصحيحين . وعن
النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من
الحنطة خمراً ومن الشعير خمراً . ومن الزبيب خمراً ، ومن التمر خمراً ، ومن العسل
خمراً ، وأنا
أنهى عن كل مسكر » .
رواه أبو داود وغيره ، ولكن هذا في الصحيحين عن عمر موقوفاً عليه ؛ أنه خطب به على
منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « الخمر ما خامر العقل » وعن ابن عمر
رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل مسكر خمر ، وكل مسكر
حرام » وفي رواية : « كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام » رواهما مسلم في صحيحه . وعن
عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مسكر حرام
، وما أسكر الفرق منه ، فملء الكف منه حرام » . قال الترمذي حديث حسن . وروى أهل
السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال : « ما أسكر كثيره ، فقليله
حرام » . وصححه الحفاظ . وعن جابر -رضي الله عنه- « أن رجلاً سأل النبي صلى الله
عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة ، يقال له : المزر ، فقال : "
أمسكر هو ؟ قال : نعم . فقال : كل مسكر حرام ، إن على الله عهداً لمن شرب المسكر ،
أن بسقيه من طينة الخُبال . قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل
النار ، أو عصارة أهل النار » رواه مسلم في صحيحه . وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل مُخمر خمر، وكل مسكر حرام » رواه أبو داود
. والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة ، جمع رسول الله بما أوتيه من جوامع الكلم
، كل ما غطى العقل وأسكر ، ولم يفرق بين نوع ونوع ، ولا تأثير لكونه مأكولاً أو
مشروباً ، على أن الخمر قد يصطبغ بها ، والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب ؛ فكل خمر
يشرب ويؤكل ، والحشيشة تؤكل وتشرب ، وكل ذلك حرام ؛ وإنما لم يتكلم المتقدمون في
خصوصها : لأنه إنما حدث أكلها من قريب ، في أواخر المائة السادسة ، أو قريباً من
ذلك ، كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلها داخلة
في الكلم الجوامع ، من الكتاب والسنة . فصل
ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة ، وأجمع عليها المسلمون حد
القذف ، فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط ، وجب عليه الحد ثمانون جلدة ،
والمحصن هنا : هو الحر العفيف... "
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire