jeudi 7 février 2013

السّلطة والحقّ والعنف


السّلطة   والحقّ والعنف

v     

إنّ الاستنطاق الفلسفي لمقام الإنسان إنْ على مستوى أنْمَاطِ وعْيِه أو على مستوى أشكال قِيَمِه أو على مستوى مُمَارَساته و مؤسّساته ، يُبيّنُ لنا بصِيَغَ مختلفة أنّه كائِنٌ يَنِدُّ / يُفْلِتُ من كلِّ تحديدٍ نهائيّ ممّا يجعلُنا ربّما نُدْرِكُ العبارة القائلة " " لقد أشْكَلَ الإنسانُ على الإنسان "  و نجاحاتُ الكوجيتو العلميّ على مستوى التَّوَغُّلِ والتّغلْغُلِ في دراسة المَادّة الحيّة والجمادات و علوم غزو الفضاء ،هذه النّجاحاتُ لا تُرافِقُها نجاحاتٌ على مستوى فهْم ما يتعلّق بالإنسانيّات بالرّغم من مَقْدِرَةِ العلوم الطبيّة والصيدليّة والتّشريحيّة على التّغَلْغل في الأبعاد الخَلَوِيّة للإنسان و ذلك من خلال العُلوم التّشريحيّة، فتمّ تفكيكُ الإنسان و تَذْرِيَةُ جسدِه والمتاجرة بأعضائه من قلب و كلى و حيوانات منويّة و رصد بنوك لمثل هذه الكائنات المنويّة

إنّ هذا الوضع المأزقي الإشكالي جعل المفكّرين والفلاسفة والأطباء و علماء الاجتماع يُنتجون أبحاثا معمّقة حول ما يُسمّى " الأخلاقيّة العلميّة" و" الأخلاقية الطبيّة والتي جميعُها تُعْنَى بالعلاقات الممكنة بين المُختَرَعات والاكتشافات العلميّة و علاقتها بالأخلاق ، في ذلك طرحَت قضيّة السّلطة بأبعادها المتعدّدة والحقّ والعنف

إنّ تأمّل تعريفات الإنسان النَّمُوذجيّة يُبيّن لنا أنّه كائن مُتَعَدِّي و ليس ثابتا و لا جامدا ذلك أنّه كائن المفارقات بامتياز إذ هو الكائن الوحيد المُشَرِّعُ للقيم والّذي يسُنُّ القوانين و يُبْرِم المعاهدات، وأنّه كائن التّعاقد بامتياز و هو لو لم يكُنْ كائنَ فوضى لما كان يُصرُّ على التّعاقد ، و لو لم يكُنْ كائنَ عنف بامتياز لما أصَرَّ على طرح قضيّة  الاّعنف و لو لم يكُنْ كائنَ حرب لما طرح مشكلة السّلم  . و كما نبّه " ميشال سَارْ" في كتابه " العَقد الطّبيعي" على أنّ الحرب ، إنّما هي فعْلُ تعاقُدٍ. تماشيا مع هذا الأفُق النّظري بإمكاننا القولُ أنّه لو لم يكن الإنسان كائنَ جُورٍ لمَا طرح إشكاليّة الحقّ والواجب ، و لو لم يكن كائن عُدْوَانٍ لمَا طرح إشكاليّة السّلطة و لمَا أنتج مُقَارباتٌ متعدّدةٌ حول عِلم الموت و أشكال " التناتولوجيا" و كلّ علوم العنف: "  الفيولونسيولوجيا" .أو "اًلْعِنَافَـــــة "

ممّا تقدّمَ نَخْلُصُ الى الفكرة التّالية: إنّ الإنسان كائنُ مَوَاقِعَ   عَلائقِيّة  أي أنّه واقعٌ في مفترقاتِ طُرقٍ متعدّدة تنبع لديه  السُّلط ِ من كل المواقع وتذهب متشعّبة  في اتّجاهات متعدّدة كما يقعُ تحت ضغط سُلُطاتٍ متباينة تتجاذبُه الأهواء المتناقضة .." قتل الإنسان ما أكفره " .

ألم يُشَبّه الأشاعرة مقام الإنسان بمقام" الرّيشة في مهبّ الرّيح" و إن وفق سياق نظري آخر.

v      

العنفُ واللاّعنفُ

إنّ المُمَارَسة الفلسفيّة لا تستنطقُ فقط الثّقافة العالِمَة و إنّما تستنطق كذلك الأساطير والخُرافات و الأمثال الشعبية و الحِكَم الدّارجة على الألسنة ، و تُقدِّم لنا أسطورة

" بروكيست" مثالا دالاٍّ على حُضُور العنف. فما هو مضمُون هذه الأسطورة ؟ و كيف يُمْكِنُ استنطاقُها فلسفيّا ؟

تُقدّمُ لنا الأسطورة رَجُلاً يجلس في مُفترَق الطُّرُقِ مُدَجَّجًا بسريرين اثنين أحَدُهما طويل و الثّاني قصير، و كُلُّ من يَمُرُّ و كان من قصيري القامَة ، يَعْمَدُ الى تمديده على السّرير الطّويل و يَأخُذ في تفكيكه بقطع أوصالِ جَسَده ليتطابق مع السّرير الطّويل ، ليتطابق جسدُهُ المقطّعُ مع قِياس السّرير الطّويل المُعَدِّ مسبّقا ، و يفعل مع طويلي القامة اللّعْبَةَ ذاتها، إذ يُمَدّدهم على السّرير الصّغير و يعمَلُ على قطع ما زادَ من الأجسادِ على قياس السّرير القصير والصّغيرالمُعَدِّ مسبّقا . ذلك هو إجْمَالاً مضمونُ أسطورة "بروكيست". فماذا نستنتجُ من هذه المُمَارسة ؟

نستنتجُ على مستوى أوّلٍ أنّ هناك نوعًا من العُنف يسكُنُ الذّاتَ الإنسانيّة ، و على مستوى ثانٍ نستنتجُ أنّ العنف إنّما هو إجْرَاءٌ مخطَّطٌ له مسبّقا ، و على مستوى ثالث نستنتجُ أنّ كلّ عنف إنّما يَتِمُّ من خلال نَمُوذج ما من النّماذج رابعا بإمكاننا أن نستنتجَ أنّ العنف في الانتظام الإنساني يَنْبَعُ من كلّ الجهات ويتّجه في كلّ الأنحاء ، خامسا نستنتجُ أنّ الإنسانَ كائنٌ متعدّدُ السُّلَطِ فنتحدّث عن سُلطة القانون و سلطة المَرْئي وسلطة الاّمَرْئي وسُلطة الجمال وسلطة المال وسلطة الأخلاق وسلطة الحقيقة وسلطة الوهم وسلطة المعرفة وسلطة المثقّف وسلطة الحقّ وسلطة الحاجة ...الى غير ذلك من ضُرُوب السُّلَط ، فكيف يمكن أن يُعْتَبَرَ المال سلطةً و ما علاقته بما يُسمّيه ماركس " زيف القيم" ؟

إذا كان الإنسان يَقَعُ تحت هيْمَنة وغطْرَسة مجموعة شائكة ومعقّدة من أشكال السُّلَط فإنّ المال خاصّة في المجتمعات الطّبقية، إنّما يَكْتسبُ كلّ الصّفات العُلويّة القُدسيّة التي ينسبها الكوجيتو الإيماني لله، فإذا كان الله في المَنْظور القُدُسي "على كلّ شىء قدير"، كُلّي التّأثير، عجائبيّ الأفعال ، يتّسِمُ بقُدرَةٍ إعجازيّة / مُعْجِزَاتيّة ،فإذا كان معنى "المُعجزة" إنّما هو "كَسْرُمسْتَقرّ العادة" كأن يجعل الله الشّمس تشرق من المغرب وتغرب الى الشّرق وهو ما يسمّيه الخطاب الدّيني "دليلُ الجواز" ، فإنّ المال كما يقول ماركس أصْبحَ "كُلّيّ القُدرة" ، وأكثر من ذلك ،أصبح هو سُلطة السُّلَط ، فإذا كان المنطق الإيماني يجعل العبارة التّالية حاضرة في ضمير المؤمن " لا حول ولا قوّة إلاّ بالله" فإنّ الإنسان المالي يقلبُ هذه القولة لتصير " لا حول ولا قوّة إلاّ بالمال "، ذلك أنّه يقْلِبُ عجائبيّا مَقْدِرَة من يمْلكُ المال إلى سلطان كُليّ القُدرَة فكلّ الحاجات الّتي كان رَجُل الدّين ينسُبها إلى الله أو إلى أوليائه الصّالحين ، تُصبِحُ كلّ الحاجات مَقْضِيّةً بأمر صاحب المال ويُصبح أصحابُ البنوك بمثابة مقام الأولياء الصّالحين وعِوضًا عن التّضَرُّعِ للأضْرِحَة والمَزَارات الدّينيّة يُصبح ذَوُو المال كعبة المُريدين الجُدُد ،وأكثر من ذلك ينطلقُ المنطق لدى الإنسان من منطق احترام الكينونة إلى احترام الملكيّة والتّملّك وهذا هو الاغتراب أمام المال. يقول ماركس "فلستُ في ذاتي محَددا البتَّةَ فيما أكون ولا بما أستطيع ، فقد أكون قَبيح الوجه ولكن يُمْكنني أن أشتري أجمل إمرأة ، فلستُ إذن قبيحَ الوجه لأنّ تأثير القُبح وقوّته المُؤَثِّرة قد يقضي عليها المال وقد أكون كسيحًا غير أنّ المال يُوفّرُ لي أربعة وعشرين رِجْلا ، فلستُ إذن كَسيحًا "

معنى ذلك يُظْهِرُ ما يُمكن تَسْمِيَتُهُ الكوجيتوالمالي " أنا ذو مال ، أنا إذن موجودٌ " . أصبح المال قيمةَ القيم وسُلطة السّلط لا تَصْمُدُ أمامه سلطةُ رَجُلِ الفكرنفسِه ، وباختصار يقول ماركس وفقَ استفهام إنْكاريّ " إذن أفلا يُحَوّل مالي كلَّ صُنوف العجز فيَّ إلى ضدِّها ". أليس هو منْطقُ الفكر الدّيني بامتياز؟ " سبحان من يُحْيي العظام وهي رَميمٌ".

لقد نبَّهَ نيتشة إلى أنّه بعْدَ أكْبَرِ حَدَثٍ مُعاصِرٍ: موت الله ، أخذَ الإنسان يَجْتَرِحُ لنفسه مَعْبودات جديدة أهمّها وَثَنُ العمل الّذي يُخْفي وَثَنَ المال ، فالحبُّ من هذا المنظور وفي المجتمع الطّبقي يَظَلُّ حُبّا رومنسيّا ، لذلك غالبًا ما تكون الأشعارُ فَجَائِعِيّة ورِثَائيّة، بإمكاننا أن نتحدّثَ عن عُقْدَةِ " مار يفون" كما ورَدَت في مسرحيّة "البخيل" موليير وهو رَمْزُ عبادة المال باعتباره كُلّي القدرة ،يقول ماركس في هذا السِّيَاق " إنّ الاغتراب مهما كان مصدَرُهُ لا يمكن أن يُنْتِجَ إلاّ اغترابا ، وحدهُ الحبّ يُنْتِجُ الحبَّ " .

إذا كان المالُ سُلْطةً من بين السُّلَط فإنّ فيلسوف " المعرفة والسّلطة  فوكو ، عَمَل على نَقد تصوُّرَاتنا التقليديّة فيما يتعلّق بماهيّة السّلطة الّتي يُقِرُّ بأنّنا ما زلنا نجهلُها. فبأيّ معنى تظلّ السّلطة أمْرًا غيرَ مقدورٍ على مَعرِفَته ؟

v      

السّلطةُ والمعرفة

إذا كان الحِسُّ المُشتركُ والآراء المُسَبّقةُ تَعْملُ على تحديد " طوبُلوجيا السّلطة" أو مَوَاقِعيّة السّلطة ، فتُمَاهي بين السّلطة والسّلطة السياسيّة أو بين السّلطة والدّولة، والسّلطة والهيئة السياسيّة. وإذا كانت الفلسفة الماركسيّة التّقليديّة تَعتبِرُ أنّ السّلطة مَصْدَرُ العنف والتِّيهِ والجهل وما إلى ذلك من النُّعُوت السّلبية كالتّمْويه والحَجْب والتّغطية ، فإنّ حَفَّاري المعرفة وأركيولوجيّيها والمُنَقّب في طبقات الثّقافة الغربيّة يُبيّنُ لنا أنّنا مازلنا نجْهَلُ ماهيّة السّلطة ، بالرّغم من أنّ الفعل النّقدي والكشفي مع كُلٍّ من ماركس الّذي اكتشف مشخِّصًا أسباب الإغتراب " الإيروتيقي / الإيروسي و توغّل في كشف المَخْفِيّ والمُتَكَتَّمِ عنه والمقنَّع ، غير أنّ معنى السّلطة بقِيَ مجهولا .يقول فوكو : " ولكنّنا ما زلنا لا نَعْرِفُ ماهيّةَ السّلطة ، هذا الشّيءُ المُغْرِقُ في الإلغاز ، هذا الشّيء الّذي نَرَاهُ ولا نَرَاهُ ، الظّاهِرُ الخفيُّ الّذي يعترضُنا حيثُما وَلّيْنا  وجوهنا ، الشّيءُ الّذي نُسمّيهِ السّلطة " . نتبَيَّنُ من تأمُّل هذه الأُطْرُوحة لصاحب كتاب " استعمال ألّلذات " وكتاب  "المراقبة والمعاقبة" ، أوّلا ضرورَة المُرَاجعة النّقدية لعقلنا السيّاسي التّقليدي ، بمعنى أنّه يَتَوجّبُ علينا تغيير الأفُق النّظري الّذي نتَعاطَى معه في فهْمنا للسّلطة ، أمّا ثانيا فإنّنا نتَبَيَّنُ أنّ السّلطة كُلِّيةُ الحُضُور، فما وصفه ماركس وهو يتحدّث عن سلطة المال إنّما يَنْسَحِبُ في جزء كبير منه على ما يقوله صاحب كتاب " أركيولوجيا المعرفة " وهو يتحدّث عن السّلطة ، وكأنّنا بميشال فوكو ، يقتبِسُ من المعجم ألاهوتي مقام الله ليَسْحَبه على السّلطة فإذا كان القول الدّيني يُؤَكّد على أنّنا أينما وَلَّيْنا وُجُوهنا فثَمَّةَ وجهُ الله ، ففوكو يستعملُ العبارة نفسَهَا من جِهة المَعْنى والمَبْنى وفق لغة النّقاد القدامى ، لتصبح العبارة في حديثنا عن السّلطة " حيثُما وَلّيْنا وجهنا فثمَّةَ سلطةٌ " ولذلك يعتبر فوكو أنّه من واجبنا أن نطْرحَ مجموعة من الأسئلة حول من يمارس السّلطة وأين يمارسها وأنّ فكرة الطّبقة الحاكمة لم تعُدْ واضحة ومتميّزة كما كانت عليه من قبل ، تماما كما الأمر بالنّسبة لما يُسَمَّى أجهزة الدّولة ، ويَنتهي فوكو إلى القول بأنّه ليس ثمّةَ من يملك السّلطة بآلف ولام التّعريف من مُبْتَدئها إلى خبرها إذ أصبحت تُمَارَسُ حيثما يكون ثمّة سلطة . فما هي الأمثلة الّتي يَتوسَّلُ بها فوكو للبرْهَنةعلى ما يمكن تسميته "تَذَرّي السّلطة؟ إنّه يحسم الأمربقوله : " لسنا نعلمُ مَن الّذي يملك بالتّحديد السّلطة ولكنّنا نَعلَمُ من لا يملكها "  ، لذلك مَيّزَ فوكو بين "مَاكرُو-سلطة " و "ميكرو-فيزياء- سلطة"  وعبارة فيزياء تُحيلُنا على مُعجم علوم الذّرة ، فالسّلطة إنّما هي لا نَوَاة واحدة لها وهي نظام علائقيّ أكثر ممّا هي ماهيّة تُمارَسُ من مواقع يطلق عليها فوكو المراكز الصّغيرة الّتي لا يَحْصرُها العقل ، من ذلك يمارسها رئيس تحرير الجريدة ومدير السّجن والقاضي والمسؤول النّقابي وحارس العمارة ...إلى غير ذلك و يعتبر فوكو أنّه إذا كانت مهمّة الفلسفة تكمن في تشخيص الواقع فأنّ أركيولوجيّ المعرفة مُطَالَبٌ بما يسمّيه فوكو بالذّات " كَسْرُ الطّوق الّذي تفرضه شبكة الإعلام المؤسَّس و تسمية الأشياء بأسمائها ...كلّ ذلك قلْب أوّلٌ للسّلطة و خطوة أولى في طريق صراعات أخرى ضدّ السّلطة " . نتبيّنُ مدى صعوبة الكشف عن آليّات عمل السّلطة لأنّها تمارس ضُرُوبا من التّكتّم ، وإن كانت أحيانا تمارس حضورها بشكل واضح للعَيَان يُبهِرُ الرّأي فتذهب بالبصر حينما تكون السّلطة ليست بعيدة عنه ولا وجود لمسافة بينها وبين من تمارسُ تأثيرها فيهم . إنّها المرئي والاّمرئي في نفس الآن و تعتبر المسألة اللغويّة واستنطاق الوعي والاّوعي اللساني والتّنصّت والاستماع و ترهيف الآذان أمرا ضروريّا لاستقصاء المناطق القُصْوى والمُتَكَتَّم عليها من أجل كشف المحجوب ، إنطاق ما تمّ تبكيته وحمله على الصّمت وكسر سلاسل المكبوت ، إنّه باختصار فعل الفلسفة الجديد والمتمثّل كما يقول فوكو في " إزاحة الحجاب عن الكتمان " و هذا القول يُحيلُنا على التّعريف الهيدقيري للفلسفة حينما يعتبرها " تمزيقٌ للحُجُب " و ليس مجرّد محاولة لامتلاك الحقيقة .

حتّى وإن كانت السّلطة يكْتنفُها هذا الغموض وحتّى وإن كان الحديث عن السّلطة هو في حدّ ذاته يَنْبَعُ من سُلطة، سلطة المعرفة ،ويَتَوَسَّلُ بسلطة وهي سلطة اللغة ،وحتّى وإن بَيّنَ فوكو حُدودَ معرفتنا بذلك الشّيء المُفْرط في الإلغاز، فإنّه تبقى للسّلطة أُسُسٌ ومعْقُوليّة بإمكاننا رَصْدُها من أكثر من موقع مثل موقع علم الإجتماع كما الأمر لدى الألماني ماكس فيبر .

يعتبر ماكس فيبر أنّه توجد أشكالٌ متعدّدة يمكن أن تتّخذها السّلطة ، وهي كما بيّنها  جورج بلاندي مُلازِمة لكلّ المجتمعات. فما هي أشكال هذه السّلط ؟ وبلغة أخرى، ما هي أُسُس مشروعيّة السّلطة والسّيطرة ؟

يقول ماكس فيبر إنّ السّلطة الأولى تستمدُّ نفوذها ممّا يُطلِقُ عليه "الأمس الأبدي" ، ويعمل فيبر على تحديد مضمون هذا المُصْطَلَح. فما يعني هذا المصطلح ؟

إنّه يعني به سيطرة التّقاليد والّتي تضرب جذورها في أعمق أعماق التّاريخ، وبفضل القِدَمِ والتّكرار،اتّْسَمت بطابع القداسة .ومن هنا نفهم الإشادة الّتي يقوم بها الفكر الدّيني والفكر الأسطوري بالنّسبة للعادة والذّاكرة ، ذلك أنّ الإنسان الدّيني والميثولوجي ، إنّما هو كائنُ ذاكرة يَعتبر أنّ الزّمن الأسطوري والدّيني إنّما هو الزّمن الّذي لا يهْرِم، في حين أنّ سائر الأزمنة إنّما يَعْتَوِرُها الفناء والتّفكّك والتّحلّل، بينما الزّمن الدّيني لا يهرمُ. يقول فيبر: " تلك هي السّلطة التّقليديّة الّتي كان يمارسها قديما الشّيخُ والسيّدُ مالكُ الأرض ".إذا كانت هذه هي السّلطة التّقليديّة، فما هي ثاني السّلط ؟

إنّها السّلطة الكاريزماتيّة .فما الّذي يعنيه هذا المُصْطلح ؟

تُسَمّى السّلطة الكاريزماتيّة تلك الّتي تعود إلى مجموعة من المواهب والخِصَال الّتي تخُصُّ النّبيّ في مجال الدّعوة الدّينيّة

والّتي تخُصُّ القائد العربي أو المَلِك الّذي تَتِمُّ مُبَايَعَتُه ،أو الدّيمَاغُوجي الكبير أورئيس حزب سياسيّ...فالوَلاءُ إنّما يتِمُّ لا للمَشْرُوع الّذي تَحْمِلُه هذه الشّخصيّة الكارِيزْمَاتيّة وإنّما الوَلاءُ لذاته .

بينما ثالثُ ثَالوثِ السّلطة ، تلك الّتي يُطْلِقُ عليها ماكس فيبر مصطلَحَ السّلطة القانونيّة وهي تستَمِدُّ مشروعيّتها ليس من نُفُوذ "الأمس الأبدي ولا من النّفوذ بالإخلاص الشّخصي كما الشّأن لدى السّلطة الكاريزماتيّة ، وإنّما النّفوذ فيها يعود إلى سلطة القانون ،فالوَلاءُ هنا لا يكون للشّخص وإنّما للفكرة أو المشروع الّذي يَعمل على تحقيقه. وبهذا الإجْرَاء الثّالث تَتِمُّ عَقْلَنَةُ الأمْر السّياسي وعقلنة السّلطة.

يَرى فيبرأنّ السّلطة إنّما هي ضِدّ الإجرام / ضدّ العنف ،ولكنّها تحتَكِرُهُ لنفسها،وبهذا المعنى فإنّها تَستخدِمُ العنفَ استخْدَاما شرعيّا لأنّه يهدِفُ إلى الخيْر العامّ والمنفعة العامّة تلك الّتي يمكن أن تَحْمِل المجتمع على أن يُمارس القمع ضدّ بعض أفراده وِفْقَ معقوليّة هي خاصيّة العقل السّياسي. فما هو مبدأُ المنفعة العامّة الذي به تُشَرِّعُ السّلطة عنفها الشّرعي وماهي الإنزلاقات المُمْكنة التّوضيفيّة استنادا إلى مبدإ المنفعة العامّة ؟

إنّ السّلطة سواء كانت ما يُسمّيه هيلفيسيوس" سلطة الجمهور" أوسلطة الدّولة ، فإنّها تمارس العنف لكن هذه الممارسة لا تخلو من العقلانيّة أو على أقلّ تقديرلا تخلو من عقلانيّة ما. إنّ العقل التّشريعي لا يمارس العقاب كيفما أُتّفقَ وإنّما توجد مراتبيّة من الإحتياطات العقابيّة تنطبقُ على الحالات حالة حالة.ومن هنا نَتَبَيّنُ مُرُونة العقل العقابي والوعي الانضباطي

و يُقدّم لنا هيلفيسيوس مثالا إجرائيّا واضحا بسيطا ومتميّزا

يقول هيلفيسيوس: " إذا كان الجمهور يُنَجِّي من الموت من يقتل لسوء الحظّ صديقه أثناء الصّيد فهو لا يَعفُو عنه لبراءة نواياه فحسب ، إذ أنّ القانون يُعاقب الحارس الّذي ترك نفسه يُؤْخَذُ بصورة لاإراديّة على حين غرّة خلال النّوم ، فالجمهور لا يُسامح في الحالة الأولى إلاّ لكي لا يُضيفَ إلى خسارة أحد المواطنين خسارةَ مواطن آخرَ وهو لا يعاقب في الحالة الثّانية إلاّ لتفادي المُفاجآت والمآسي الّتي قد يُعَرّضُه لها افتقاد اليقظة كهذا."

نُلاحظ أنّ تصريفَ العنف وليس تبذيره هو الّذي يَعْني أساسا مبدأ المنفعة العامّة ونتبيّنَ من الشّاهد الهيلفيسيوسي بالذّات هذا الإجراء التّوزيعي الّذي يخضع لمبدإ المنفعة ولمبدإ العدالة في القمع وبذلك يُصبح العنف شرعيّا لأنّه لم يَتِمَّ باسم مصلحة ذاتيّة وشخصيّة ولم يَصْدُر عن شراهة أنانيّة ،فإذا كان من لم يقتل عمدا صديقه تعفُو عنه ما يُسَمّى بلغة رُوسّو "الإرادة العامّة " فإنّ من لا يقوم بواجب الحراسة ،حراسةُ حدود أو عمارة أو أيَّ شىء يُوكَلُ إليه أمرَ رعايته في حالة تراخيه وترهُّلِ إرادته فإنّ المجتمع يحزِم أمره و يعاقبه حتّى –كما يقول هيلفيسيوس- " يتفادَى المفاجآت والمآسي " . هذا الاحتياط ضدّ ما هو كَوارثي والّذي يمكن أن يَمَسّ بالمنفعة العامّة هو الّذي ي\ثب\ضرّر تأكيد هيلفيسيوس على اعتبار هذا المبدأ هو الأصلُ لكلّ التّشريعات ،بلغة أخرى ، كلّ التّشريعات القانونيّة يجب أن تَنبع من مبدإ المنفعة العامّة وهي قضيّةٌ حقوقيّة، أخلاقيّة وإنسانيّة وكونيّةٌ .ومن هنا يَتَحدّدُ معنى الشّرف. فمن الشّريفُ من هذا المنظور؟

يقول هيلفيسيوس محدّدا صفة الشّريف وِفق الصّياغة التّالية

" على المَرء إذن ، ليكون شريفا أن يجمع إلى نُبل النّفس أنوارَ العقل وكلّ من يجمع في ذاته شَتّى عطايا الطّبيعة هذه مهتديا ببوصلة المنفعة العامّة " نلاحظ أنّ " المنفعة العامّة" والمصلحة العُليا إنّما هي أساسُ التّأسيس لأُسُسِ تشريع القِيَم

وهي "الغاية القصوى " بلغة سبينوزا .

وعبارة "البوصلة" دَالّة في هذا المجال ذلك أنّ هذه الآلة يحتكم إليها الإنسان عند التّيه ، عند الضّياع وعند تداخل السّبل .كذلك يعتبرُ هيلفيسيوس أنّ هذا المبدأ هو بمثابة المَرجع الرّئيس الّذي لا نحكم به فقط على الأفراد وإنّما نحكم به على كلّ الهيئات السّياسية ، فلا بُدّ لكلّ مُشَرِّع أن يأخذ بعين الإعتبار مبدأ المنفعة العامة بما هي أُسُّ أساس كلّ الفضائل الإنسانيّة.يقول هيلفيسيوس: " ولأجل هذا المبدإ أخيرا يجب أن يضحّي المرءُ بكلّ مشاعره وصولاً لأعلى عاطفة إنسانيّة بالذّات ". ومن هنا يخلصُ الحكيم إلى القول بأنّ: " الإنسانيّة لا ترحم الأفراد أحيانا " وهذا اعترافٌ بأنّ داعي المصلحة العامّة ، يستلزمُ بما هو كذلك ممارسةُ ضَربٍ من العنف وإن كان شرّا فهو لا بُدَّ منه ويقدّم لنا مثالا إجرائيّا بيداغوجيّا واضحا ، ما هو هذا المثال ؟ إنّه مثال السّفينة الّتي تتوقّفُ عن الإبحار لهدوء البحر وغياب الرّياح لمدّة طويلة إذ يقول هيلفيسيوس :"فإذا فوجئت سفينة بهدوء البحر مدّة طويلة وأمر آمِرُ الجوع بصوت حازم بالاقتراع على الضحيّة سيّئة الحظّ الّتي ينبغي أن تُقِيت  رفاقها ، إنّ هذه السّفينة شعار كلّ أمّة ، كلّ شىء يصبح شرعيّا بل فاضلا من أجل السّلامة العامّة "

إنّ هذا المثال التّوضيحيّ وإن كان مُوغِلا في القساوة، فهوُيبيّن لنا ليس فقط سلطة ما يُسمّى ب"المصلحة العامّة" وإنّما يُبَيّنُ لنا كذلك أنّ الحاجة بما هي عنفٌ مُمَثّلَةٌ بالجوع من شأنها أن تُرْبِكَ نظام الجسد ونظام المجتمع ،ولذلك اقتترنت الحاجةُ بالألم وبالشّوكة وبالوجع ، أليست المادّة اللّسانية وحدها دالّة في هذا السّياق ، إذ قَرَنت اللغة العربيّة

بين "الحاجة" و" شجرة الشّوك" .

ممّا تقدّم نتبيّنُ أنّه بالإمكان أن يُستعمَلَ مبدأُ المنفعة العامّة كتبريرأو غطاء إيديولوجي لتبرير العنف ضدّ الرّعايا أو المواطنين وتجريدهم من هويّاتهم بآسم الفقر أو البطالة أو التّسكّع ، وذلك ما بيّنهُ " بوتيرُو". فكيف نظر بوتيرو إلى دواعي المصلحة العُليا ؟ وماهي الإجراءات الّتي تتّحذها الدّولة ضدّ الفقراء من منظوره ؟ ولماذا يدعو إلى اعتباره خطرًا على الرّاحة العامّة ؟

يعتبرُ بوتيرو ( القرن السّادس عشر) أنّ أهمّ مبدأ يجب أن يَستند عليه الانتظام السّياسي ، إنّما هو المصلحة العُليا ، لذلك لا بدّ للدّولة أن تتّخذ- بما هي وفق عبارته " سيطرة حازمة على الشّعوب " – مجموعة من الإحتياطات حتّى تضْمَنَ استمرارها أوّلا وتُؤَمّنَ سيادتها ، من ذلك مثلا تشخيص أعْرَاض الخطر الّذي يمكن أن يحْمِلَه المجتمع داخل أحشائه فكان الإهتمام ُ بما يسمّى الفقراء.فكيف حدّد بوتيرو مقام هؤلاء ؟

يقول بوتيرو : " يُعدُّ خطرًا على الرّاحة العامّة أولئك الّذين لا مصلحة لهم فيها " . نلاحظ تَلاَزُمَ الخطر والعنف الكامن في المجتمع بالذّات فالّذي لا مصْلَحةَ له في الوطن الّذي ينتمي إليه فإنّه لا يدافع عنه ، إضافة إلى ذلك فإنّه وبحُكم موقعه في التّداول الثَّرَواتي ، تتعارضُ مصْلحَتُه مع مصْلحة من يمتلكون ، وإن كانت الرّاحة العامّة وفق عبارة بوتيرو إنّما هي المسألة تطرَحُ على الانتظام السّياسي ككُلٍّ ، كما يُركّز بوتيرو على ارتباط العنف بالمصلحة أو بغيابها ، فمن لا يَملِكون ( المُعدَمون والفقراء والرِّعاعُ والسّواد الأعظم..) يتحَيَّنون الفرص بل يَسْعَوْن إلى خَلْقِها من أجل أن يرتبكَ الأمن العامّ لأنّ في استتباب الأمن خَرابهم الخاصّ ، لذلك يقول بوتيرو: " الّذين يُعانون من البؤس الشّديد والفقر لأنّه لم يكن لدى هؤلاء ما يَخسرونه ، يسهل تَوَرُّطُهم بمناسبة حدوث الطّوارئ الجديدة وهم يستغلّون طبعا كلّ المناسبات لهم لكي يثوروا ويربحوا من دمار الآخرين ."    نتبيّن أنّ بوتيرو على وعي تامّ بين الفقر والعنف.فهم لم يُنقذهم إرجاع ما يمارسون من عنف إلى طبيعة خاصّة وإنّما يمارسون العنف نتيجة انتماء إلى وضع اجتماعي، ولقد بيّنت تواريخُ الحروب أنّ لكلّ حَرْبٍ أثرياؤُها.فنتحدّثُ عن أثرياء الحروب وأثرياءُ الكوارث وأثرياءُ الأزمات ، لذلك يؤكّد بوتيرو على مبدإ " الرّاحة العامّة". يقول :" على المَلِك إذن أن يَأْمَنَ جانب هؤلاء ".فصوتُ الكاتب إنّما هو صوت النّاصح والعارف بأحوال وتكوّن الدّول وانهيارها، لذلك يقترح على الملك مجموعة من الإحتياطات والإجراءات للسّيطرة على الجسد الإجتماعي باتّباع استراتيجيا لإمتصاص العنف ولحُسن استثمار حتّى الغضب.فما هي الإحتياطات الّتي يقدّمها بوتيرو ؟ يقول :" إمّا يطرِدُهم من دولته أو بأن تُصْبح لهم مصلحة في راحة هذه الدّولة.أمّا طردهم فإمّا بإرسالهم إلى المستعمرات، أو بإرسالهم إلى الحرب، أو بطردهم بصورة مُطلقَة ."     ويأخذ بوتيرو مثالا إجرائيّا يتعلّق بملك اسبانيا "فرديناند" حينما طرد الخاملين وغير النّافعين مُعْطِيا إيّاهم مُهْلَة شهرين هذا الشّاهدُ يُبيّن لنا بوضوح عدم التّساهل معه بالقوّة أعداء المصلحة العُليا، كما نتبيّنُ على مستوى آخرأنّه لا وجود لحقّ مواطنة كحقٍّ مقدّس، كأنّما الدّولة هي دولة الأمير أو الملِك وعلى مستوى آخر نستنتجُ أنّ العمل أخذ يَشُقُّ طريقه كشرط رئيسٍ من شروط الانتماء إلى الدّولة أنّ الإنتاج والتّداول الاقتصادي أصبح يحتلُّ مكانا بارزا في القرن السّادس عشر ويَتَوسَّلُ بوتيرو بنموذج الحضارة الصّينيّة وقوانينها.فكيف يمكن أن يخلق وأن يُولّد النّظام السّياسي المصلحة لدى هؤلاء الفقراء والخاملين وغير النّافعين ؟ ويُجِيبنا بوتيرو " يجري توليدُ مصلحة لديهم بإجبارهم على القيام بشيء ما من مثل تعلّم الزّراعة أو أيّ فنّ آخر" والهدف الرّئيس أن يُصبح هؤلاء من القادرين على أن يُعِيلوا أنفسهم، فقوانين الحضارة الصّينيّة تَفرِضُ فرضًا صَارما وحاسما أن يتعلّم الإبنُ مهنة أبيه وينْجَرُّ عن ذلك كما يقول بوتيرو: " مَنْفَعتان: أوّلا تحسينُ الفنون وبلوغها حَدَّ الكمال، ثانيا: أن تتوفّرَ لكلّ شخص إمكانيّة أن يتعلّم في بيته الفنّ والصّنعة يُفيد نفسه بواسطتها ".فحتّى العِمْيَانُ والكُسحاء يجب أن يَخْضَعُوا لمَبْدَإ العمل بما هو من مُقتضيات المصلحة العُليا. يقول بوتيرو:" يجبُ أن لا نتحمَّلَ أولئك الّذين لا يريدون القيام بأيّ شيء ويَبقون -وفق لهجة صارمة تدعو إلى السّلوك الانضباطي - عاطلينَ عن العمل أمّا العميان والكسحاء فيعملون قَدرَ ما تسمحُ لهم به قُوَاهم، ولا يُقْبَلُ في المستشفيات إلاّ العاجزون تماما ." نتبيّنُ ممّا تقدّم أنّ السّياسة بما هي فنُّ تصريف الشّأن العامّ لها منطقها ودَواعيها ولا يمكن أن تُفْصَلَ قضيّة السّلطة بالمعنى الّذي حدّده فوكو عن مسألة المعرفة ومسألة "المراقبة والمعاقبة" .وفي هذا الإطار نفهمُ تَساؤُلَ صاحب كتاب " من العسل إلى الرّماد " وكتاب "العرق والتّاريخ" ( كلود لفي ستروس ) ما إذا كانت الكتابة " أداة تحذير للوعي واستعباد أو أنّها أداة تنوير           إذا كان فوكو قد بيّنَ أنّ السّلطة إنّما هي توجد "في كلّ مكان وفي لا مكان " ،وأنّها تنبع من كلّ الجهات فإنّ اللغة والمال والجمال والمعرفة ...تتوفّرُ جميعها على السّلطة ، وتمارس فاعليّة الغواية والإغراء، ولقد طرح كلود لفي ستروس تساؤلا مشروعا حول مقام الكتابة وما إذا كانت عنوان تنوير وبالتّالي عنوان تحرير ،أو كانت عنوان استعباد واستبداد وهيمنة وتحذير. إنّ إجابة كلود لفي ستروس ، بإمكاننا صياغتها في شكل أطروحة لها مَعْقُوليّتُها، وأسلوبُ حِجَاجِها فما هي هذه الأطروحة ؟ الكتابة مُقترنة باستمرار  تكوين  المدن والإمبراطوريّات معنى ذلك أنّ هناك تَلاَزُما بين الحدث الكتابي بمعنى المرور من الشّفاهيّة إلى الكتابيّة يبقى في نهاية التّحليل مقترنا بالحدث السّياسي والقطيعة مع نظام التّرحال والتنقّل والانتظام في إطار الإقامة في المدينة بمُسْتَلزماتها.فما مدى معقوليّة هذه الأطروحة ؟ وما هو أسلوب البرهنة والحِجَاج الّذي اعتمدتهُ ؟يَرى لفي ستروس أنّ " زمن بداية ظهور الكتابة تبدو مساعدة على استغلال البشر قبل أن تكون مساعدة على تنويرهم " والتّنويرُ هو بالمعنى " الكانطي" للكلمة أي بمعنى أن يكونوا قادرين على استعمال عقولهم الخاصّة بحريّة وجرأة كأن يُفكّروا بأنفسهم ويتَخَطَّوْا مرتبة السّوائم والدّواب يُذكّرنا صاحب كتاب " المدارات الحزينة" بأنّ نشأة الفنّ المعماري بالذّات تقترنُ باستغلال آلاف العمّال من ذلك مثلا أنّ الأهرامات-وهي ما هي عليه من جمال وجلال وعظمة-إنّما اسْتَلزَمَت الكثير من الآلام البشريّة والقرابين الآدميّة فلا شكّ أنّ آلاف الأكفّ قد جُرحَت والكثير من الدّماء قد أُهدرت في سبيل أن تستقيم تلك المعالم الحضاريّة ويصل كلود لفي ستروس إلى أنّ الغاية الأساسيّة من اتّباع الأنظمة الكتابيّة إنّما هو الهيمنة والسّيطرة.فالكتابة بهذا المعنى ذات تحكّمٍ إذ يقول: " فإذا كان ما افترضتُهُ صحيحا وجب القول إنّ الوظيفة الأوليّة للتّواصل المكتوب في تيسير الاستعباد أمّا استخدام الكتابة لغايات غير نفعيّة أي بغرض تحقيق مُتعة فكريّة وجماليّة فهو نتيجة ثانويّة " .لقد قدّم صاحب كتاب "الأنتربولوجيا البُنْيَويّة " مثالا من حضارات امبراطوريّة " الأنْكَا" ، تلك الحضارات الّتي ازدهرت في غياب سلطة الكتابة مع ذلك نلاحظ مدى هشاشة هذه " التّشكيلات السّياسية الكبرى الّتي تنشأ وتضمحلّ في مدى بعض العقول" معنى ذلك أنّ الكتابة من شأنها أن تُمَتّنَ الوعي بالذّات و تُؤَرّخَ لهذا الوعي ، إنّها ضدّ الفوضى والتّلاشي، ولعلّ استنطاقا بسيطا للاشتقاق اللّغوي وتأمّل المادّة اللّسانيّة لكلمة الكتابة بالذّات ، في الفرنسيّة والعربيّة ،يُبيّن لنا مدى معقوليّة هذه الأطروحة إذ تقترنُ كلمة "الكتابة" في العربيّة بالتّطريز والخياطة تماما كما الأمر بالنّسبة لوالّتي تعني النّسيج وفق فعل كَتَبَ الشّيء ، نجد معنى رسمه / ثبّتهُ / أقرّهُ / حضرَهُ / زَبَرَهُ  وكأنّ الكتابة بهذا المعنى تقاوم التّرهُّل و تُنازل الإنْمِحَاءَ ، لذلك فهي تُعتبرُ ضربًا من حِيَلِ العقل - بالمعنى "الهيقلي" للكلمة- تقترنُ بممارسة شكل من أشكال الهيمنة ، أليست المادّة اللّسانيّة لفعل "كَتَبَ" تُحيلنا على كَبَتَ ، كبت فلانٌ فلانًا بمعنى قيّده وقهره وأذلّه، وتسمّي الّلغة العربيّة "المكبوت بالذّليل ومنها تذليل ُ الصِّعاب " كما نقول بكَّتَ فلان فلانا بمعنى أسكته وحمله على الصّمت ، كما نقول التّبكيت وهو ممارسة فعل "إلْجام" الآخر أو إلجام الذّات. بهذا المعنى فإنّ الكتابة إنّما هي مُتَعَدّية بذاتها، بمعنى ليست أحاديّة الوظيفة ، فإن كانت أداة من أدوات السّيطرة والتّبرير فهي كذلك سلطة في يد السّلطة ، فإنّها بإمكانها أن تكون سلطة مضادّة لسلطة السّلطة السّياسيّة. يبيّن لنا كلود لفي ستروس أنّ القرن التّاسع عشر ، والّذي عُرف بمبدإ التّعليم الإجباري في أوروبا ، كان المَطْمَح الرّئيس لهذا المشروع إنّما هو حَملُ الرّعايا على فِقْهِ لغة القانون ، قانون السّلطة السّياسية . و بذلك يظَلُّ مبدأ إجباريّة التّعليم عنوان اعتبار الكتابة وسيلة سيطرة وتكنولوجيا استيعاب وهيمنة إذ افترض العقل السّياسي " أنْ لا أحدَ يجهلُ القانون ".

إذا كانت الفلسفة ممارسة تشخيصيّة تعتمدُ فاعليّة النّقد ، و إذا كان لكلّ نقد مِعْيارٌ للحكم إذ لا بدّ من سَنَد إبستيمولوجي ، وإذا كان هيلفيسيوس قد اعتبرأنّ بوصلة المنفعة العامّة هي مقياس كلّ سلوك سواء فرديّ أو جماعيّ ، فإنّه بإمكاننا القول أنّ كلّ فلسفة جديرة بهذا الإسم إنّما يجب – ومن مَوْقِعٍ حقوقي – أن تكون نقدا للأشياء بإسم كينونة الكائن البشري لذلك أنتج الخطاب الفلسفي قولا في العنف ،وإذا كانت الفلسفة تقع في أغلب الأحيان ضحيّة العنف وقد وجدت الفلسفة دائما في الفيلسوف الّذي لم يتعاطى الكتابة أبدا - سقراط – سَنَدا لها بالرّغم من أنّ الفيلسوف المعاصر ذلك الّذي يسمّيه "بيارْ توبي" " سقراط الموظّف " قد أصبح يمارس فعل التّدوين وقد فقد الكثير من فاعليّته كفيلسوف ، يبقى الموت السّقراطي شهادة لتعاطي الفيلسوف مع العنف ، فهو إن كان ضحيّة له فإنّ ردّهُ كان عنيفًا ، ليس بالمعنى المادّي وإنّما بالمعنى الرًّمزي ، ومن هنا نتبيّن أنّ الاّعنف بإمكانه أن يكون ضربًا من العنف ، فهو عنفٌ ليس علامة على اليأس أو على معنى العجز ، وإنّما هو علامة على الاقْتِدَار.                        يعتبرُ " إيريك فايْل " في كتابه "منطق الفلسفة " أنّ العنف بما هو ممارسة اقترنت بالإنسان ، يعُتبرُ ثابتا بنْيويّا يُشكّل ُ حدثا بالنّسبة للفلسفة. وينطلق الفيلسوف من أطروحة مركزيّة تتعلّق ربّما بالغاية القصوى من الفلسفة وبلِمَاذِيّاتها ولقد قدّم هذه الأطروحة وفق الصّياغة التّالية " إنّ الاّعنف هو مُنطلق الفلسفة و غاية مُبْتَغَاها " . فكيف تأسّست معقوليّة هذه الأطروحة ؟                                                    إنّ معقوليّة هذه الأطروحة يمكن البرهنة عليها انطلاقا من الإشكاليّة التّالية: بأيّ معنى يُعَدُّ العنف مشكلا فلسفيّا ؟        وهل أنّ القول بأنّ العنف هو منطلق الفلسفة وغاية مبتغاها يتناقض مع القول : إنّ الفلسفة تُوصي باستعمال العنف ؟  وهل أنّ الإختيار بين العنف والخطاب هو اختيار بين العنف والاّعنف ؟                                                      وهل من الأخلاق أن نلجأ إلى العنف حتّى نحقّق انتصارالعقل على العنف ؟

v    

محاورة السيف للقلم؟

يعتبرُ إيريك فايْل  أنّ منطق الفلسفة إنّما يَنْبَني أساسا على استنطاق مقام الإنسان إنْ على مستوى إنتاج الوعي أو الممارسات أو المؤسّسات أو القيم : معنى ذلك أنّ كلّ ما يتعلّق بالإنسان قابل لكي يكون موضوعا فلسفيّا. يقول :إنّ العنف لمشكِلٌ بالنّسبة للفلسفة " وليست الفلسفة كذلك بالنّسبة إلى العنف :معنى ذلك أنّ الممارسة الفلسفيّة الّتي تجعل من العلم موضوعا لها (الإبستيمولوجيا ) أو من الفنّ موضوعا لها ( الإ ستيتيقا ) أو من الانتظام السّياسي موضوعا لها (فلسفة الأخلاق – الأكسيولوجيا – والسّياسة ) أو من الإنسان موضوعا لها (فلسفة الإنسان : الأنتروبولوجيا )...وقد نبّهنا كانط إلى أنّ " جميع الأسئلة تَرْتَدُّ في نهاية التّحليل إلى الإجابة عن سؤال ما الإنسان ؟ " . بهذا المعنى لا يكون غريبا عن الفلسفة أن تتأمّل نقديّا الممارسات الإنسانيّة بربطها بالغايات. من هنا نفهمُ أنّ العقل السّياسي والرّؤية السّياسيّة للعالم الّتي تبحث عن النّجاعة والفاعليّة بإسم منطق السّلطة كاعتماد مبدإ المنفعة العامّة ودواعي المصلحة العُليا أو بآسم الإعلان أو البيان العالمي لحقوق الإنسان أو بآسم ما يُسمّى اليوم ب"النّظام العالمي الجديد" وحقّ التّدخّل ، فإنّ الفلسفة بما هي تمزيقٌ عنيفٌ للحُجُب ونقد جذريّ للفيلودوكس والعقل الدّغمائي ، فإنّها كانت ولا تزال موضع اتّهام لأنّ السّلط الكُليانيّة والشُّموليّة المغلقة تبحث عن " الصَّهر " والانسجام وفق منطق " المراقبة والمعاقبة" يحكمُها في ذلك ما يمكن تسميته الوعيُ الإنضباطيّ،فلا تَقْوى على تحمّل كلّ ما من شأنه أن يُربك هذا المشروع أو ذاك . يقول إيريك فايل : وليست الفلسفة كذلك بالنّسبة إلى العنف الّذي يهزَأُ بالفيلسوف أويُبعده عندما يَجده مُزْعجا ويشعرُ أنّه عقَبَة ". نلاحظ أنّ الوضع العلائقي بين الفلسفة والسّلطة وضع متوتّرٌ مغلّفٌ بالشّوك والرّيبة .                         إذا كان سقراط هو بحقّ المدشّنُ الحقيقي للممارسة الفلسفيّة كمَسلَكيّة نقديّة ضدّ ما يمكن تسميته استبداد المغلق السّياسي ، فإنّ حدث موت سقراط يُعتبر درسا مُوغلا في العنف المُؤَسّساتي والعنف الفلسفي ، ذلك أنّ موت الحكيم كما لو أنّه مسألة عاجلة لأنّ حياته بل وجوده في حدّ ذاته أصبح مُحرجا للسّلطة السّياسية .من هنا لا بدّ للسّلطة أن تَتَدبّرَ أمرها لتُقصي الحكيم.                                                  ماذا فعل سقراط ؟                                              إنّه مارسَ التّفلسُفَ استنادًا إلى الحوار وإلى " التّوليد السّقراطي" وإلى السّخرية والتّهكّم باعتباره إحدى التّقنيات النّاجعة ضدّ وهم امتلاك الحقيقة . فإذا كانت الممارسات الاستبداديّة تستندُ إلى شرعيّة السّلطة فإنّ الفلسفة تستندُ إلى شرعيّة المعرفة باعتبارها لا يمكن أن تُمتَلَك .لقد عبّر "دافيد" على وضع سقراط ، وذلك خلال القرن التّاسع عشر وتحملُ اللّوحة عنوان موت سقراط خلال تجرّع السمّ يظهر فيها رافعًا إصْبِعَهُ للسّماء عنوان ولاءٍ للحقيقة والاستقامة ، وأنّ الحقيقة يجب أن تَعْلُو ولا يُعْلَى عليها ، مادًّا يدهُ إلى كأس السمّ دون اكتراث . معنى ذلك أنّ الحكيم يستخفُّ بأعنف إجراءٍ يمكن أن تتّحذهُ السّلطة ضدّ الفيلسوف . وقد يكون حادثُ الإدانة والموت السّقراطي هو المحدّدُ الرّئيس للتّعاطي الأفلاطوني مع الفلسفة. معنى ذلك أنّ الفلسفة والسّياسة مُتلازمتان ، ومنذ البدء ارتبطت الممارسة الفلسفيّة بالممارسة السّياسيّة ، أليس الخطاب السّياسي هو الّذي يُريدُ أن يُثَبّتَ المعنى الّذي يريد تثبيتَهُ في وعي وفي لاوعْي الجماعة ،بينما الفيلسوف لا يطمئنّ للمعنى وإنّما يستنطق المعنى دائما. لقد نبّهَ نيتشة إلى أنّ الكائن وحدَهُ " الكائنُ المِسْقامُ " والّذي يسعى كدحًا ليُضْفي معنى حيث لا معنى ، فيصبح الصّراع بين الفيلسوف والسّياسي  إنّما هوصراع من أجل المعنى . يقول إيريك فَايل " والنّتيجةُ على وجه المُفارقة إذن هي أنّ العنف ليس له معنى إلاّ بالنّسبة إلى الفلسفة الّتي هي رفضٌ للعنف " . فهل يعني ذلك حقًّا أنْ لا معنى للعنف لدى السّياسي أو بالنّسبة للسّياسي ؟                             فلنُقَلِّب الأمر جيّدا .                                           يبدو أنّ المفارقة الّتي يتحدّث عنها إيريك فايل لا تزيد على كونها مفارقة ظاهريّة في نهاية التّحليل ، لأنّ السّياسي يكترثُ بالمعنى وهذا المعنى يُكسِبُهُ مشروعيّة ترتبط بممارسة العنف واحتكاره ، إنّ وحدها السّلطة تريدُ أن تمارس العنف ، وعندها ، عندها تُبرّره بآسم المصلحة العامّة أو المنفعة العامّة أو المصلحة العُليا للبلاد أو سلامة التّراب أو الحقّ في المُواطنة ، فإنّ ما تقترفهُ لا يصبح إجراما وإنّما من دواعي الإنتظام السّياسي ، من هنا نتحدّثُ عن حُجّة الدّولة أو منطق الدّولة ، لذلك تَعْمدُ الفلسفة إلى استعمال ضَرْبٍ آخر من العنف يمكنُ تسميَتُهُ تجاوُزًا للعنف الرّمزي ويكفي أنّها تُحدثُ شرْخًا يُشكّلُ احتجاجا ضدّ العنف ، حتّى نُدرك أنّ الفلسفة لا ترفضُ العنف بشكل دغمائيّ وإنّما تعمل على مقاومته من خلال المُطارحة النّقديّة مع المُتَداول اللّساني الّذي تُريدُ السّلطة أن تتكتّم على بُعْدِه العنفيّ ، ربّما هنا نفهمُ تسَاؤُلَ " لويس آلتوسير" الإنكاريّ أمام طلبته " لماذا تتصارعُ الفلسفة حولَ الكلِمات ؟ " يقول إيريك فَايل : "ولا يعني ذلك أنّ الفلسفة ترفضُ العنف مُطلَقًا بل قد يَسْهُل أن نذهب إلى أنّ الفلسفة تَعِي ذاتها بما هي فهْمٌ و بما هي سبيلٌ للإلتئام إنّما توصي باستعمال العنف ، لأنّها مَدْعُوَّةٌ إلى تبيُّنِ أنّه يجبُ عليها أن تنتصبَ ضدّ العنف " بهذا المعنى نستنتجُ أنّ الفلسفة إنّما هي ضَرْبٌ من العنف ضدّ العنف ، إنّه العنفُ المقاومُ للعنف ، وقد يكون الحوارُ الّذي هو النَّقيضُ الموضوعي للمونولوغ والّذي هو الصّوت الواحد وللرّأي الواحدِ وللمُكنِ الواحدِ ، أخطَرُ الأجهزة النّظرية الّتي تستعملها الفلسفة ضدّ العنف ، ذلك أنّه لا سلاح آخر للفلسفة غير حضورها باعتبارها نقدًا وتمزيقًا للحُجُب وفاعليّة تشخيصيّة وفق عبارة فوكو .ألم    يُشَبّه نيتشة الفلاسفة بأنّهم "أطبّاءُ الحضارة " وأنّ أخطر الأمراض فتْكًا بالإنسان هو العنف ؟ بهذا المعنى نفهمُ أنّ العنفَ يمكن أن يُنتِجَهُ العقل المقهور بالرّغبة ، فيصْبِحُ حيلة من حِيَل العقل ذاته ، ذاك الّذي احْتَالتْ عليه سُلطةُ الأهْوَاء وسلطةُ الرّغبة وسلطةُ اللّذة ، ذلك أنّ سُكْرَ السّلطان أشدّ من سُكْرِ الشّراب كما نتبيّنُ ذلك في كتاب "مرايا الملوك" . لقد بيّن غاندي ومن موقع الزّعيم السّياسي لحركة التّحرير الوطني الهنديّة ، أطروحة يمكن أن تُلَخَّصَ وفق الصّياغة التّالية " التّسلّحُ بالاّعنف الفاعل " . معنى ذلك أنّ للعنف مستويات ، فكما نتحدّثُ عن الحروب الجائرة وعن الحروب العادلة ، كذلك نتحدّثُ عن الاّعنف باعتباره ترهّلٌ في الإرادة ووهَنٌ فيها ، باعتباره ضَرْبٌ من الجُبْنِ و"عجزٌ في الإقتدار " ونتحدّثُ من جهة أخرى عن الاّعنف الّذي هو عنوان       " شجاعة هادئة " وفق عبارة غاندي  ، كما يمكن وصف الاّعنف السّقراطي بأنّه أعنف أشكال العنف. بهذا المعنى يؤكّدُ غاندي على أنّه يَدعُو إلى ضرْبٍ من ديانة الاّعنف والّتي هي كما يَصِفُها ليست ديانة القدّيسيين وإنّما هي للناس أجمعين .يقول غاندي : " إنّ الاّعنف ليس خُضُوعًا راضِيًا للشّرير، فالاّعنف يُراجعُ إرادة المُستبدّ بكلّ قوّة النّفس ".  معنى ذلك أنّ الحكيم الهندي يُركّزُ على البُعد الإرادي على ضرورة بناء الذّات والصّمود الّذي يَكْمنُ في قوّة الرّوح .  هذا المبدأ المثالي الّذي يعود إلى الشّعور والاّشعور الحضاري في الثّقافة الهنديّة ذلك ما يختلفُ عن التّصوّرِ التّقليدي لمقاومة العنف والّذي عبّر عنه الشّابي بقوله :لا عدْلَ إلاّ إذا تَعادَلت القِوى وتَصَادم الإرهَابُ بالإرهابِ بهذا المعنى تُعتبَرُ ديانة الاّعنف الّتي قدّمها المهاتما غاندي إلى حدّ كبير صدمةً عنيفة لآليّات التّفكير الّذي يُقرنُ التّحرير الوطني بالعنف العنفي . ونستنتجُ ممّا تقدّم أنّ الإنسان بإمكانه أن يَحْتال على الإنسان بطُرُقٍ شتّى ، وأن يَحتال لنفسه ضدّ العنف بالاّعنف الّذي هو ماهيته أرقَى أشكال الحكمة وأرقى أشكال العنف ، فتبقى القوّة والقدرة والعنف بأشكالها المُتعدّدة في تلازُم .فما هي علاقة القوّة بالعنف ؟ و بأيّ معنى يُعتبرُ العنفُ علامة يأس ؟

v      

v     العنف علامة يأس                                                                    هناك أكثرُ من أُفُقٍ نظريّ لمُقاربة ما يُمكنُ تسْمِيَتُه "لُغْز الألغاز" وفقَ عبارة فوكو وهو يتحدّثُ عن السّلطة ، هذا المُسَمّى بالعنف ، فإذا كان "الفيولونسيولوجي " يجعل من العنف موضوعًا له ، فإنّ الفلسفة بما هي استنطاقٌ نقديّ وفاعليّة نقديّة تأمّلت موضوع العنف ، فتبيّن ل"جورج قوزدورف" أنّ العنف إنّما هو أساسًا " علاقة يأس " .     وهذه الأطروحة تَصْدمُ المفهومَ المُتداول والعامّي حول العنف إذ غالبا ما يُخْلِطُ الفكر العَجول بين القوّة والعنف فيما بينهما دون وعي نقديّ بهذه المسألة ، فيتمُّ امتداحُ القوّة و بطريقة سريّة - وفي أغلب الأحيان لا واعية- يَتمُّ انزلاقٌ حطير نحو امتداح العنف . يعتبر قوزدورف أنّ " العنف إنّما هو جَزَعٌ في العلاقة بالآخرين " ، معنى ذلك أنّه افتقارٌ إلى التّوازن إلى " الحدّ الأوسط " وفق عبارة أرسطو  ، وبقطع النّظر عن التّفسير البيوفيزيولوجي وذلك الّذي يتعلّقُ بكيمياء الدّماغ فإنّ المرتبة الإنسانيّة وإن كانت ليست هي المرتبة الحيوانيّة ، نلاحظ أنّها تختصُّ أساسا بوَضعٍ مفارَقاتي ، ذلك أنّنا غالبا ما نصفُ الإنسان الّذي يستخدِمُ القوّة من أجل الإيقاع بالآخرين بأنّه يتَوَفّرُ على خبث الثّعلب ، ونَصِفُه بالحيوان الكاسر أو بقلب الأسد ، وباختصار نَصِفُه بأنّه حيوانيّ ومتوحّشٌ ، بينما كما لاحظ "ريمُون أرون" بأنّ      " الحيوانات ليست متوحّشة " بمعنى أنّها ليست عنيفة . فما الّذي يُبرّرُ هذا الموقف ؟                                        إنّ سلوك الحيوانات يعودُ إلى " محصول غريزتها " وفق مُعجم الفلسفة النّقدية الكانطية ويُنبّهنا أرون إلى أنّ الذّئب المُنهزِم يُسْلِمُ عُنُقَه لمن ينتصِرُ عليه من الذّئاب لكن هذا الأخير لا يُجْهِزُ عليه ، بينما الإنسان يمكن أن يُبَدِّدَ ويُفتِّتَ ويُتلِفَ غيرَهُ من البشر دون شفقة ودون أن يُسْتَفَزَّ فيقوم بهذا السّلوك ، في حين أنّ سلوك الحيوان لا يزيد عن كونه مجموعة من رُدود الأفعال ، لذلك ربّما نفهم قول أرون :     " أن يُمارس الحيوان العنف مع الحيوان ذلك ما علّمنا إيّاهُ المعلّمون في المدرسة "                                       لقد حدَّدَ قوزدورف  العنف بأنّه وَضْعٌ علائقيّ ، وكلّ علاقة تفترضُ على أقلّ تقدير طرفين أو حدّين ، فالآخَرُ الّذي كان بإمكاني أن أكون ليس هو الطّرف الوحيد الّذي أتعامل معه فأجعلُه موضوعًا – بلغة هيجل – للرّغبة ،أو موضوعًا للإشباع –بلغة فرويد –  ،أو موضوعًا للإستغلال – بلغة ماركس - ، أو موضوعًا للأكل – بلغة علماء الأنتروبوفاجيا ( أكلة لحم البشر ) ...فإنّ الآخر ليس دائما ذلك الّذي تكون بيننا وبينه مسافة تطول أو تقصُر وإنّما يمكن أن يكون أقرب منّا إلينا ، من حبل الوريد، إنّه الأنا كآخر ، وبذلك فالأنا لم تَعُدْ تلك الهويّة المُغلقة ، ولقد قوّضَ التّحليل النّفسي بنية الأنا التّقليدي ، فغَدتْ الأنا المفردُ جمعًا مصَاغًا بلغة المفرد ، وقد نبّهَ إلى ذلك تودوروف في كتابه " اكتشاف أمريكا ومسألة الآخر" إذ يقول تودوروف في هذا السّياق بالذّات : " ويمْكِنُ اعتبارُ هذا الإكتشاف الآخَر في الذّات " ، فالأنا الآخربالنّسبة للذّات يمكنُ أن يكون موضوع عنف أو لذّة أو حتّى استغلال وموضوع أكل ، إذ نقول : فلان يتآكَلُ بمعنى يأكل بعضَهُ بعضًا ، كما نقول : أكل فلان عُمُرَهُ بمعنى أفْناهُ ، كما تسمّي العربُ واللّغة العربية الأمراء واصِفة إيّاهم بأنّهم أكَلَةٌ و آكِلون وأنّ الرّعيّة أكيلَةٌ ومأكولَةٌ . وتُعتبرُ الحوادثُ الإنتحاريّة نموذج تعنيف الذّات بامتياز . بهذا المعنى بإمكان العنف أن يَنبَعَ من كلّ الأتّجاهات في المُنتظم الإنساني ويتَّجِهَ إلى كلّ الإتّجاهات أيضا ، وانتشارُه يمكن تشبيهُهُ بالانتشار السّرطاني . وإذا كانت اللّغةُ والتّداوُل اللّساني إنّما هي من الإشتراطات الأساسيّة لتكوين الميثاق الإجتماعي ، وبالتّحديد جميع المواثيق الإجتماعيّة ، وإنّها بذاتها حَمَّالَةُ عنف ، إذ وَحْدَهُ الإنسانُ كائنُ سياسات لسانيّة وكائنٌ هَتَّاكٌ للمواثيق ونكّارٌ للعهود والوعود. فإذا كان الإنسان يستعمل اللّغة فإنّه يستعمل اللّغو ، وحينما تتعطّلُ لغة الكلام يَنْفَصِمُ التّواصل  عندها يَنوبُ الحُسام / السّيف / اليَدُ  عن اللّسان فيكون العنف لكن يرى قوزدورف وفق صياغة أحرى ومعنى آخر ، أنّ تعنيف الآخر إنّما هو تعنيف للذّات ، ونَحْرُ الآخر إنّما هو انتحارٌ إذ يقول : " إنّ العنف ، كلُّ عنف ، فضلًا عن اغتيال الإنسان للآخر، يتمادَى في الإنتحار ، إنّه فعلا تدميرٌ للذّات ولهذا كان القُدامى يعرفون أنّ الغضب جنون مؤقّتٌ . فالعنف يفترضُ تخَلُّصًا من المراقبة " .                                 نتبيّنُ أنّ العنف ظاهرة – كما اللّغة – مُتعدّية وليست لازمة تُمارَسُ ماديّا وليس رمزيّا إذ يَفتَرِضُ فعل التّحطيم تحطيم الذّات وتحطيم الآخر ، من ذلك استعمل  جورج لوكاتش عبارة "تحطيم العقل ، واستعمل من بعده برهان غليون عبارة " اغتيال العقل " ، واستعمل بول فايريبند عبارة " تشييع العقل " . وهذه العناوين دالّة ٌ على العنف المجازي أو الرّمزي . إنّ العنف فقدانُ توازن ، لذلك أكّد القُدامى على اقترانه بالجنون ، وإذا حدّدنا المعنى اللساني للجنون وفق اللّغة العربية أو الاّتينيّة / الفرنسيّة ، نتبيّنُ أنّه في أبسط تعريفاته – وفق عبارة تازينْيافْ في كتابه "بستان الجنون "- إنّما هو انْكِدَارٌ في الرّوح ، وعبارة الإنكدار تشيرُ إلى غياب الوضوح والتّميّز ، إنّه يفتحُ على الظّلمة وعدم البيان والتّبيين والتّبيّن . ألا نقول وفق اللسان العربي جُنَّ الليلُ بمعنى ابْهَمَّ واحْلَوْلَكَ واشتدَّ سوادُهُ ، وكلّ رغبة لا تتمُّ سياستها - بمعنى حسن قيادتها – إنّما تقود إلى الحدود القصيّة ، بهذا المعنى ربّما نفهمُ لماذا يُعْتبرُ السّلطانُ عنوان تيهٍ وضيّاعٌ لمن يُغْرَمُ به ، لذلك ربّما عبارة "سُكْرُ السّلطان أشدّ من سُكْر الشّراب " هناك نزعة كاليجاليّة نسبةً لكاليجيلا  و بروكستيّة تستبدُّ بالمُستبدِّ فيصبحُ العنيفُ أداةً للعنف أكثر منه ، فيُرْبِكُه الغضبُ ولا يَقْوَى على التّحكّم في أهوائه.لذلك يُعتَبَرُ الحبُّ كذلك مقترنًا ومُتَلازِما بالجنون وبالهلاك . لذلك تحتلُّ مَقُولَةُ الغضب مكانا بارزا في العنف . ولقد نبّهَ ابن حزم إلى أنّ المقام الأقصى للحبّ إنّما هو المقام الأقصى للحرب ، فالمُحِبُّ يَتَوَسَّلُ الطّرق والتّقنيات والإحتياطات للمحبوب ، فنقول في المرأة الّتي تتزيّنُ لزوجها بأنّها تتقتّلُ له ، أي أنّها تبحثُ عن مقْتَلِه بمعنى قتْله ، كما يفتحُ هذا المعجم على معجم الصّيد ، فنتحدّثُ عن شراك الهوى للإيقاع بالفريسة . لقد نبّهَ صاحب كتاب " تهذيب الأخلاق " يحيى بن عُدَيْ إلى خطر الغضب وعدم سياسة النّفس الغضبيّة إذ يقول : " إنّ الغَضْبانَ بمَنِزلَةِ البهائم والسِّباع َيفعلُ ما يفعلُه بغير عِلمٍ ولا رويّة، فإنْ جَرَتْ بينه وبين غيرِه مُحَاوَرَةٌ أدّت إلى أنْ يُغْضِبَ خصْمَه ويُسَفِّه عليه ، اعتقدَ فيه أنّه في تلك الحالة في منزلة البهائم والسِّباع فيُمسِكُ عن مقابلته و يُحْجِم عن الإقتصاص منه لأنّه يَعلَم أنّ الكلْبَ إذا أنْبَح عليه لم يكن يستَجيزُ مقابلته على نَبْحِهِ ، وكذلك البهيمة ، لو رَمَحَتْه لم يستحسن عقوبتها لأنّها غير عالمة بما تصنعُهُ إلاّ أن يكون جاهِلًا سفيها ، فإنّ من السّفهاء من يَغضبُ على البهيمة إذا رَمحتْهُ ، ويُوجِعها ضرْبًا إذا آذَتْهُ وربّما عَثَرَ السّفيهُ فشتمَ مَوْضِعَ عثرَتِه ورَفسَهُ برِجْلِه "                              نلاحظُ مدى انفتاح سِجِلاّت الغضب وسجلاّت الحبّ وسِجلاّت الحرب والصّيد والقنص على بعضها ، إنّها تستلزمُ جميعها الإيقاع بالآخر وتحويله إلى موضوع تفريغ أو إشباع بشكله المادّي أو بشكله الرّمزي .بهذا المعنى يُعتبرُ العنف عنوان عدم تعقّلٍ ووهَنٍ على مستوى تقنية الإنهمام بالذّات وعجز على حسن قيادة و"استعمال اللّذات ". يقول قوزدورف : " ولكن يَحْدُثُ أنّ العنيف وقد استشاط غضَبًا لا يَقدِرُ أن يتمالك نفسَه من جديد " وعبارة " لا يقدر" و "يتماسك" نفسها إنّما تُشيرُ بكلّ وضوح إلى وَهَنِ الإرادة وإلى خطر التّحكّم في الرّغبة ، في المحبوب أو في المَنْهِيِّ عنه أو المغضوب عنه ، ذلك أنّ من يَنْحَطُّ إلى مرتبة السّباع والبهائم وفق عبارة يحيى بن عُدي يصبحُ بالسّوية في مرتبة الكلب العَقور . فيرى من الحُلول إلاّ ما يُصِرُّ على رؤيته مدفوعا ، ليس بالرّغبة فقط وإنّما بالرّغبة في الرّغبة ، فيمتنعُ على تفحُّصِ وضعه ، وتقليب أمره وتَعَقُّل أفعاله وضبط غاياته ، وحْدَه العنف أداة اليقين في مثل هذه الحالة . لذلك وكما يقول قوزدورف : " يَعْدو العنف مؤسّسة ووسيلة حكمٍ " وكلّ الأنظمة الإستبداديّة بتلويناتها المختلفة لا يُعتَبَرُ فيها العنف عَرَضِيًّا / نَزَويّا وإنّما يصبح ثابتا بُنْيَويّا ، مؤسّسةٌ لها اشتراطاتها ومعقوليّتها ومُسْتنداتها النّظريّة . لكن قوزدورف ينظُر إلى هذه الأنظمة نظرة الطّبيب للجسد العليل ، إنّها تُقاومُ هشاشتها وضَغفها فتعملُ على الإيهام بامتلاك القوّة والإقتدارعلى الحزم والحسم. بهذا المعنى يصبحُ العنفُ نوعا من القناع . يقول قوزدورف : " زِدْ على ذلك أنّ هذا العُنفَ فرديّا أو جماعيّا ، ليس إلاّ تمويها يُحِسُّ به المَرْءُ و خوفا من الذّات على الذّات ، وهو يحاولُ بكلّ الوسائل أن يُخْفيه "    وأكثر من ذلك ، بإمكان المجلود أن يتماهَى بالجلاّد ، حتّى وإن عمل على التّحرّر منه بالثّورة عليه ، فإنّه يقتبسُ أسلوبه في التّفكير وفي تسيير الآخر وقيادة الذّات ، لذلك توَجّبَ النّظرُ فيما يُسمّى - بلغة مصطفى حجازي – " سيكولوجيّة الإنسان المقهور " أو – بلغة باولو فراري – " لا بُدَّ من الإنتباه إلى إعادة النّظر في بيداغوجيا تعليم المقهورين " حتّى لا يصبحُ التّاريخ تكراريّا كوارثيّا ، فيخرج الإنسان من نظام الجحيم إلى آخر ومن نظامٍ مُحْتَشَداتيّ إلى نظام آخر. ألم نؤكّد في سياقات عديدة على أنّ عنوان التقدّم إن على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدّول إنّما هو الإقتصاد في العنف ضدّ الآخر وضدّ الطّبيعة وضدّ الذّات ، وذلك لا يتمّ فيما يبدو إلاّ بحسن قيادة العقل واستعماله  وفق لغة ديكارت مُدركين ضرورة التّمييز بين العقل العنفي والعقل الاّعنفي .

v      

     تظلّ الفلسفة كشفًا وتشخيصًا لمقام الإنسان                     وتحديد هويّته إنْ على مستوى أشكال الوعي أو الممارسات أو السّلوكات أو القيم لذلك تُطرَحُ بشكلٍ مُلِحٍّ مسألةُ الواجب الخُلُقي وأُسُسُ القِيَمِ

v       

 إنّ جميع هيئات الدّولة تُصبِحُ آذانا وعُيونا و أيادي وأقْدامًا بواسطتها تُنْصِتُ مصلحة مالِكِ الغابِ وتتفَحَّصُ و تقدر وتصُونُ وتقبصُ وتركضُ

              - هكذا كتب ذات يوم ماركس-

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث