samedi 8 décembre 2012

عشق الكتابة جنون الحياة


عشق الكتابة جنون الحياة( حول كتاب ديلانو شقيق الورد )


د مصطفى الكيلاني

ــ 1ـــ
عشق الحياة هو بعضٌ من جنونِ الكتابة ، وعشق الكتابة هو بعضٌ من جُنون الحياة ، إذ ثمّة رغبة جامحة ، فيض من حنين  لا يخلو من أنينٍ ، مُغامَرَةٌ حَدَّ الانتحار البطيء أو انتحارٌ يرتضي له المغامرة مَذهَبا حتّى أخر لحظة  نبْض في كِيان سليم دولة الشاعر الفيلسوف . فالشعر بالنسبة إليه هو البدء والأصل والمرجع بعيدا عن محدود القصيدة ، هو " الشعري " الديشتن أو " الديختن " ( dichten )   الهيدغريَّ حينما يستحيل التكلم باللّغة رغم اللّواذ بكلّ من الحرف والصمت , فيُلتجأُ إلى لغة الصمت وصمت اللّغة بحثا عن الصدى الدفين الّذي ينقلب إلى صوت مُدَوٍّ  قادر على أن يهب نفسه لاستعارة جديدة " حيّة " ,  بلغة بول ريكور  ( paul  ricoeur  1)
ــ 2ــ

كذا يطالعنا " كتاب ديلانو شقيق الورد " لسليم دولة ( 2 )
بوهج رغبة في البوح بالمُخبّإ في ذات تملّكها  فيض  " تيموسيّ" لا يتوفّر نادرا إلاّ في من آثروا ثقافة الموت المخصب الاستشهاد العشق المغامر التضحيّة بالروح قبل الجسد لمعبد   الحياة ، حيث الكهنة بنات أفكار وقصائد أبكار وارتعاشاتُ صورة أثمرها جنون الحياة , ولعلّ بعضه يتجسّد في تلك "القشعريرة " النيتشهيّة الخفيفة المنبعثة " مشية العقل المجنح في كل العضلات " ( 3) ، ذلك التوتر الهادئ أو الهدوء المتوتّر القادر على إنتاج معنى رغم كلّ ما ثبت من حقيقة النقصانِ في أصل الكائن وماهيّة الكِيان .
ـــ3ـــ
فتتأكد الرغبة في الحرية منذ البدء عند قراءة النص ــ العتبة (Texte  ـــ   para )  الأوّل في قسمه التذييليّ المصاحب للعنوان الرئيسي :" شاعر حرّ . يمرح بحريّة في حدائق وحشته " وهو الدال على " ديلانو شقيق الورد " ( الاسم المستعار ) الذي يحيل على مسمّى تزامنت ولادته وعشق الحريّة ، وتنامى وجوده في غمرة هذا العشق المتعاظم بفعل الحريّة   ذاته , بالمرّح " المسكون  بالترح ( الوحشة ) ، بدلالة التخوم القصيّة المشتركة بين الحياة والموت , شأن المغامرة التي لا تعني المقامرة ، بل اختيار كل شيء ورفض كلّ شيء   في آ ن واحد دون التسوية بين الأشياء , أو هي "التقوى "بعيدا عن المعاني المتداوَلة المستهلكة التي أضحت بحكم العادة والتكرار أصناما طيفيّة لا تفرّخ من الحياة إلاّ الوهم والاستهام .
فتقوى سليم دولة ماثلةٌ , هنا , في مدلول الوجود ذاته , في استباق الموت الذي لا يعني  هلاكا , بل فيضا من إمكان معنى , من الحياة مغامرة أو حياة  ـ  مشروع لا تكون إلاّ بحلم  الحريّة , هذا المعنى الممكن أو الاّ ـ معنى  القادر على إخصاب معنى , إن ألحق بمفردات اللّغة الغادرة استحَالت  العدميّة المحض إلى وثوقيّة مهلكة وفقد الوجود أهمّ صفات مَوْجُودِيَّتِهِ التي بها كان  ويكون وسيكون  أو قد يكون... لذلك انتصر شاعرُنا الفيلسوف منذ بدء " ديلانو شقيق الورد" لِمعنى الحُرّيّة مُعْلِنًا حربَه العادِلة على أعداء الحُرّيّة  في كُلّ مكان وزمان , بدءا بالمَوْقِع ( الأن والهُنا ) الذي قد يضيق ويتّسع بمدى الرؤية إضهارا أو إظمَارًا , حصرا أو إرسالا , من الوطن إلى العالم , ومن العالم إلى الوطن , بمختلف الأمكنة , وبالمُشترك القائم بينها ضمن مكانكيّة واحدة متعدّدة تتشكّل من خلال الوعي الزمني المُحايثِ لها .
ـــ 4 ـــ
حينما نقرأ " ما قبل الفاتحة , نص التنبهات  الوارد في مطلع "الكتاب" يلفت أنظرنا حرص سليم دولة على شطب كل الذوات المزعجة المتآمرة على مشروع الحريّة , تلك التي لم يتوفر لديها التَأهّـل لفهم روح النص , كأن يشمل نصّ   التنبهات :" من لم يكن موجوعا  من  الخلق ، ورهيف القلب , ومن لم يستسيغه , والذي  يعاني من فائض أخلاقي " ومن به ايضا فائض انتهازيّة مزمنة , والرقيب والعاشق النادم , ومن لم يفقه السياحة العاطفيّة, ومن لم يجرب حريّة الجولان بين المجرّات رغم قوانين الجذبيّة والحتميات المكانكيّة , ومن ليس قادرا على التمييز بين الكتابة بالحبر والكتابة بالدم, ومن لم يجن ثمار ألذّ الخسارات , ومن لم يقرّ الحكمة القائلة بأنّ للأنثى حقّ الذكرين في الحبّ ِ, ومن لم يعتزّ بعروبته , ومن لم يدرك نعومة القوّة ...
وإذا " كتاب ديلانو شقيق ... " انتقائي حسب ماهيّته التّي من أجلها صِيغ , لأنه يُأثر لنفسه قراءةً نوعيّة لا يرقى إليها  إلاّ من توفرت فيه صفات  أخلاقيّة عاليّة لا تكون إلاّ لدى الأبطال والمبدعين العظام . بديهيّ أن ينتصر لثقافة التعالي, لا الاستعلاء, على المَواطِنِ الخفيضة بتعلّة الاندماج في تيّار الحياة اليوميّة بوقائعها المباشرة . وليس أدلّ على هذا الالتزام في الوجود بالكتابة المتعاليّة والرمز المختلف من نصّ الإهداء وكُلٍّ  من شذرات الفاتحة الأولى  فالثانيّة  فالشذرة  الشيطانيّة ضدّ الشياطين " حيث " ديلانو شقيق الورد "  إسم مُزْدوج يصل بلمسة  قلم واحد بين سمات كُلّ من أنوثة ( ديلانو )  والذكورة (المعذب شقيق الورد ) تنصيصا على الماهيّة التواصليّة في الذات الواحدة المزدوجة بلأنا ـ أنت أو بالأنت الملازم للأنا منذ لحظة التفكير والتكلّم الأولى (4) : " أرفع هذا المكتوب باسم المعذبة  ديلانو والمعذب شقيق الورد " (5) . وتتعاظم روح التواصل بالحُبّ " استنادا إلى ابن عربيّ والصالحي الدمشقي , وبمجمل القوّة الجسديّة مُمَثَلَةً في " القشعريرة الخفيفة التي تنشرها مشية العقل " , حسب الفكر النتشهيّ . مثلما يتعالق المُقَدَّسِ والمُدنّسُ , أو يتحدّد المُقَدَّسُ بدءًا ومرجعا بالمدنَّسِ , شأن القيمة الما ـ قبليّة عن الخير والشرّ التّي هي بمثابة الرحِم المُنشئ لكلّ منهما , تسعى الذات الشاعرة إلى مقاربتها بواسطة الاستعارة الشعريّة بُغْية َ الإطاحة بعديد " الأصنام " القديمة والحادثة , الغيبيّة والوضعيّة على حدِّ سواء .
ـــ 5ـــ
فيكون البوح بدءًا بالحوار الذاتيّ أو " الهذيان " على شاكلة تداعيات , ظاهرها التواصل بين صوتين , وخَفِيُّها استبطانٌ لا يخلو من أطياف وظلال دالّة على مسمّيات ووجوه وحيوات  , بضروب شتّى من الإيحاء المطابق المُتعمّد حينا والمنكتب أحيانا .
كذا تتنزل الكتابة في الحدود القصيّة للمعنى والاّ ــ معنى أو إمكان المعنى , وللحضور والغياب , وللوجود والعدم , وللحال ونقيضها أو نقائضها:
" ــ أين قلبك
( وعَدْتَـنِي بالحُبِّ أم تَوَعَّدْتـَنِي بالغياب ) ؟ " ( 6 )
ولأنّ الصوت حركة استبطان منذ بدء الحال " الهذيانيّة " فقد استقدم إليه علامات ورموزًا كونيّة , لتتماهى لغة الشعر وأشياء الوجود الظاهرة والخفيّة , بفعل الاحتمال  الكاتب حيث " رياضيّات الشعر أو " كيمياؤه " تصف  بالحدس أو تَحْدَسُ بالوصف المُحايث للحظة البوح بتلك الحال" الهذيانيّة " القائمة بين التوظيف الاستعاريّ للُغَة الشعر والاستخدام الكنائيّ , بين ما يُحِيلُ على مرجع تشبيهي عند المُقاربة بين الالفاض في إنشاء الصور وبين تجاورها بحُكم الاسترسال (المجاز المُرسل) , لتأثير العبث المُعْتَمِ أحيانا الذي يستدعي أداءا سرياليّا في عديد المَوَاطَنِ .
كذا الرؤية تشي في الغالب بعمًى أو  أعَشًاذاتيّ , فتُخاطب الروح ذاتها بأطياف الذاكرة وظلال الاشياء الدنيّة والقصيّة معا :
" أين تمضي ؟
(إني أسمعك ولا تراني ولا أراك )
وحْوَحَتْ  روحي
وحَمْحَمت الكواكب , جاراتي الجميلات)  ( 7)
ـــ 6ــــ
وإذا الحوار بدء " القصّة " الشعريّة : سؤال تليه إجابة , أو إجابة لا تخلو من السؤال . وبين السؤال والإجابة عند " الفصل " الأول من هذه " القصّة " تداعيات حالٍ كاتبةٍ  بالشعر تبحث لها عن موقع في زحمة الفراغ , وعن دليل مُضيء في ليل العتمة . فيتحوّل الأسلوب " الهذيانيّ " من الاستفهام وإجابات الابهام الذي يستدعي فهما لا يتحدّد بمُسْبقٍ ولا ينقضي بثابت إلى تكرار النِداء عند مخاطبة الحيوان والنبات  بالتناصّ الناتج عن استقدام لاميّة الشنفري وروح الصعلكة الماثلة في عديد المواقف  التي تنتصر لقيم الرجولة وإغاثة الفقير والمستضعف ( 8) . فنشهد ب " كتاب ديلانو..." فسيفساء نصوص تحولت من مظانّها الأصليّة إلى رُوح الكتابة الجامعة حيث " ديلانو " ابنة نينوى تنفتح صورتها الاستعاريّة على رموز النساء المختلفة في الاعتقاد التمُّوزيّ لأرض  وادي الرافدين وتاريخ بني العبّاس , منذ " دهر انقلاب الكنايات والإقامة في المجرّات ... "  (9) ومُتَعَدِّد الأمكنة في تواصلها وتداخلها تجسيدا لكيانٍ شَتَات: " باب الفلة " و" باب الجديد " و " باب البنات " في تونس العاصمة , " وباب المُعَظَّم " في العراق " وباب السور " في قفصة , " وباب الطوب " بنينوى , حيث الوقائع أحداثٌ مُتباعِــدة  مُتقاطعةٌ والنبيّان "يونس" و " شيت " والأمّ والأمة والذكورة  والأ نوثة والحُبُّ والحرب والنظْم والظُلم والشِعْر و" العُهر اللّغويّ " ودموع كلٍّ من العاشق والجعّة ...
كذا المكانيّة وقد استحالت من زحمة الوقائع إلى حادث الذات المدفوعة برَغْبة الهذيان والتردُّد  بين المواقع , وُصُولاً إلى " باب العسل " بتونس الدّال على مُشتَرَك الاسم والمُسَمَّى  ــ الرمز ...
ــــ 7  ــــ
تستمر الذات الكاتبة في ممارسة   لعبة التصديّة أو التفضية مُرورًا من الأنا إلى الآخر  (الأنت) من "ديلانو " إلى "شقيق الورد ", وعَوْدًا إلى" ديلانو ", بما يصل ويُؤالف بين الإثنين في واحد مُشترك , حيث الغناء وصف لذات , والوصف غناء تتعدَّد أصواته ونَغَمَاته بمُختلِف المجلات المكانيّة والكيانيّة والكونيّة . وكما يندفع الغناء إلى أقاصي اللّحظة بِوَعْي حادّ للموقع المُتحرِّك في عديد الاتّجاهات وبتدفّق الحالات آن الكتابة  " الهَذَيانيّة " المَرْسلَة يرتدّ بالقصد إلى داخل الأنا الذي لا يعني ال " Je   " بالفرنسيّة , بل  ال  " Moi  "  . إذ الأوّل ضميرٌ عابر قد يدلّ على أيّ مُفْرَد مُتكلّم . أمّا الثاني فمفاده صميم الذات,EgO)) المختلف عن الـ " هو " (  ça )  و"الأنا الأعلى " (Sur  Moi ) , ليقارب مفهوم الأنا (  Moi ) " الدازاين " الهيْدغريّ الذي يُحَدُّ بالحضور الزمنيّ ( الآن) والموقعيّ ( الهُنا ) , مثلما حرص  الدكتور عبد الرحمان بدوي على ترجمته إلى  العربيّة   " بالإنّيّة " (10) . لذلك تسعى الذات الكاتبة شِعْرًا إلى أدائه بعديد الأسماء: " أنا , أناي , ذاتي , كُلّ ضمائري الحاضر والغائبة , كينوني , ربّما  كلّها " ( 11) , لتأكيد صفة  الوعي في راهن البوْح بهذا " الأنا " أو " الأناي " والوعي المُتصل ضرورةً  و احتمالا باللاّ ــ وعي حينما تستعيد الذات الشاعرة بالذاكرة حَدَث ولادتها . غير أن إحضار الغائب المنفَلت عن مدار الذاكرة هو بَعْضٌ من الحضور المُكثَّف بلحظة الوعي والمُنتشِر وراء " السطح العميق " بِمَجْموعِ قُوى الجسد القادر على الاستذكار والحدْس مَعًا .
ـــ 8 ـــ
إنّ الجسد عند النظر في ما هو أبعد من الظاهر المُنْكشف , كتابٌ زاخرٌ بالآثار الدالة على كلّ شيء منذ لحظة الولادة وعلى إمتداد مراحل العُمُر  , وخوضا لتجربة التمرُّد ومُغامَرَة السيْر  بعيدًا عن السُبُل المسطورة عند الاقتداء بالجنون , الكُفر أو إمان الكفْر , المُروق , الارتداد , تحريض الطلبة على العِصيان , امتطاء " حمار نيتشة " , إفساد التلاميذ , عشق  المُتصوّفة , الترويج لماركس , التمرُّد على ثقافة  الإيجاب المَحْض  في حياة " بني نَعَمْ , نَعَمْ " السائدة , بتفضيل الصُراخ  على الهمْس إيمانا بجدوى التخاطُب في واقِعٍ لا يُقرّ ثقافة الحوار .
فتتكثّر الرغبة في الحوار داخل الصوت  المُزْدَوَج  الواحد : " ديلانو وشقيق الورد " , بما يشبه الغزل أو البوح المُتَبادَل كأنْ ينكشف شقيق الورد في عينيْ ديلانو , مثلما تنعكس  صورة ديلانو في عيني  شقيق الورد , فهو " ألق الغياب , دُرّة الأكوان , كِتاب الندى , سرّ الأقحُوان  , الشاهد على ديلانو , قاهر الموت بالحياة  ذاتها , بالحبّ , بالكتابة , بالرحيل في معاني الآخَر ــ ديلانو مُمَثّلَةً في روح الجسد وعميق القلب ورعشة التذكُّر  بالشِعر وفي الشِعر والخِفّة وظلال الرغبة بفيْض عشق الحريّة ,. وهي اللحن يتعالى في سماء العاطفة , الوجَع ــ الجُرْح , الأهل , الأمّ , تكثُر معاني الحبّ ,  "تونس ",  " بغداد " , " غزال الوقت الفلسطينيّ ", دُوَارُ حرُوف يليه دُوار , كالرَقْصِ الدَوَرانيّ يشي  باللّذّة والعَناء , عِشق مُلْتبِس صادم حيث تَعَدُّد المواقع والحالات والمواقف , بضروبٍ شتّى من التداخُل :
" وردة جرحي الشرقيّ في قلبي الغربيّ
يا أحلى لحن أوبيرالي
( تائه يقتات من جواذب حَرَكة الكواكب ) " ( 12 )
إنّ الكتابة إذن , في "  كتاب ديلانو  ... "  لحن أوبيراليّ  " تُدَنْدِنُ " به ذاتٌ مهووسة برغبة " الهذيان " علّها تكشف عن سطح الجسد العميق , بما يتحقّق من دُوَارِ إغْماضةِ العينين والدَنْدَنَة  تليها الدَنْدَنَة  , كطَنين ذُبابة يُمَزّق وحْشَةَ الصمت من غير أن تُثبّت كلاما ينقضي بكلام: رفض صريح إلاّ لرئاسة الرأس (رأسي) , بلغة الذات المُدَنْدَنَةِ " ولهُويّة اليُتْم " حيث لا شيء يدلّ على البُنوّة , الأبوّة , الأمومة سِوى "لذّة الحبر" ( 13 )
ــ 9 ــ
وحينما تواصل " الدَنْدَنَة " أو الفعل " الهذياني " ملامسة البعض من " عمق السطح " الجَسَدَانيّ  في  غمرة " فوضى " الأحساسيس المشاعر الرغبات تنبجس صُوَر  التاريخ القديم والحادث, من " كذيبة جُليد  الثور الأنيق" في أسطورة  تأسيس قرطاج إلى تاريخ السلالة والجميلة صلامبو وبعض من صفحات فلوبير وذكريات طفولة هاربة ,كالكجّات وحكايا الجدّة " تنسى أحيانا كم من  ركعة ركعت في صلاتها ... " ( 14) , وحادث الوقائع والصُوَر , بمُتراكم ما كان ويكون  .
فترى  الألفاظ, الجُمل المبتُورة على لسان ديلانو , الأنوثة الشاهدة على الشِقّ الآخر من ذكورة الإسم, أو الذكورة التّي لا تعني شيئا إن لم ترِدْ على لسان الأنوثة ومن خلال بصرها , بصيرتها , أقصى إنفتاحها على الآخر ــ الذكر . فتشهد ديلانو على شقيق الورد كي تنكشف في الأثناء بهُويّة من ينتمي إلى تاريخ " حماقات الجماعة ":
" أنا سِرُّ  الحماقات الجماعة
ونِظام تَعَدُّد   الإناث ...
وإثبات البُعولة
... وبهْجَة الرُعاة الرُحَّل ,
غيبوبة الأعضاء ...
عند الفجر ,
شبقيّ ...
أو أيّ شيء كهذا
أنا وديعة السُلالة في مفْتَرق طُرُق الوجْد ... إلى الهاويّة " ( 15 )
كذا تتوالَدُ الحال الهذيانيّة وتتكثّر لَدَى ديلانو بتيقّظ  الجسد واستنفاره لشهوة
الحكاية, البوْح, التذكُّر , الاستماع إلى " وَسْوَسَة  شيطانه ", نسيان كلّ شيء تقريبا ..., لتنقلب "ديلانو " من لسان إلى أذُن مُصْغيّة حينما يتناهى إليها من الداخل صوتُ " شقيق الورد " .
ــــ 10ــــ
وكأنّنا بهذه المُراوحة بين التكلُّم والإصغاء نشهد تدفـّق حِواريّة " هذيانيّة " من نوع خاصّ , إذ تنزاح عن المُقدَّس إلى الشعر , أو عن قداسة النظر الماورائيّ إلى قداسة الشعر كي يتعالق تَعَدُّد الأصوات و " اللحن الكوراليّ " بِفيْضِ " الدَنْدَنَة " تليها " دنْدَنات " : " أراك , لأراك , لا بُدّ  أن أراك ... " ( 16 ) , وذكر عناوين الكُتُب , قديمها وحديِثِها , التُراثيّ منها والحداثيّ ضِمن مُجْمَل " الكتاب الكونيّ " , كإبن خلدون والتيفاشي وبروست وبلزاك وأبي حيّان التوحيدي وستاندال وأمبرتُو إيكُو و إين منظور ورامبو وعمرو بن  كلثوم ... , وخَدَر الألفاظ عند ذكْر الأمّ الأخرى , أمّ السوائل , الخمرة واحدةً مُتَعَدِّدَةً بأسمائها المختلفة , كالماغون وحنّبعل ومُرناق والسُتيْلاء  وصلامبو  وقصر ماريّا وسان أو غستين ", بكُلّ أرواح السوائل , وبالأخضر والأحمر والأبيض وما ينشأ في الدماغ عند الانتشاء من توالُد ألوانٍ وأشكالٍ  وحالاتٍ ...
فتُفضي الحال " الهَذيانيّة " إلى تداعيات أخرى , هي من الانتشاء وإليه ,  حينما يشي الجسد بأسرار أخرى للفرح الناشئ في الغناء وبالغناء , كأنْ يحلّ وجه آخر " للدَنْدَنَة "  مَحَلّ الأمْكنة والوُجوه  والأقوال والحالات والمواقف الثقيلة الباهتة الذابلة رغم الإيهام بنَفْخ الحياة فيها . فتتعالق شهوة الحبر وسمفونيّة السوائل المُسكِرة في ذات الجَسَد المستنفر بأقصى  حالٍ للرغبة العاشقة حَدّ جُنون الكفْر الإيمانيّ الذي لا يُقاربه إلاّ من جرّب التنقُّل في التخوم القصيّة للحياة والموت , كما أسلفنا ,وبالموقف الاستشهاديّ الذي لا يُسرّع حركة الزمان عند تفجير حزامٍ ناسف , بل يَحوّل اللحظات , كلّ اللحظات إلى أجساد " تتعاقب في إعلان استشهادها , بواسطة انفجاراتٍ هادئةٍ  مُستفزّة  لِمَن آثَر  حياة الجُمود والقُعود .
ـــ 11ـــ
هو العشق الكتابيّ شعرًا , الاستشهاديّ وُجودًا عند ذِكر "تون" و" بغداد " و " قفصة " و "صفاقُس " و"تطاوين "والهند و " الصين" و " آسيا " و" فلسطين " ...
ولأنّ الكتابة  إنْشَادٌ , رقْص حُروفيّ , عذاب جميل فهي التموقُع  في المكان الذي لا  يُحَدُّ بمكانيّة ثابتة  أو جاهِزة , وأنّما هي  الكونيّة التي لا تنفي المكان ( الوطن والقارة ) , كالتسليم , هنا , بجغرافيّة الزمان الذي يُحَدّ بَدْءًا وانتهاءً وفي الأثناء بالعِشق السافر الصارخ : " وأنا عاشق يامولاتي  !  " ( 17 ) , عِشق الكتابة , عشق الحياة , عِشق الأُنوثة  ــ الرمزْ , عشق الحريّة التي لا تعني حُريّة أخرى أو قتْلا للحريّة , عشق كل شيء قد يدلّ على شيء .
فتكتمل غِنائيّة " كتاب ديلانو شقيق الورد " الشِعريّة بِفيْضٍ من كلماتِ الحُبّ المُتبادَل بين عاشقين في ذاتٍ واحدةٍ تنشطر لتتوحَّد , أو تنشطر لتزداد توحُّدًا , بروحِ شبيهةٍ بالروح الأفلوطينيّة التي تنزاح عن مُطلق المعاني إلى رمْزيّة  الدم النيتشهيّ  حينما يلهج زرادِشت ــ نيتشه بالحكمة القائلة :"أكْتبْ بدمِك فإنّ الدم هو روحك !  " , هو الدم الحبريّ الذي يُقارب هدير الزمن المُسْتعاد وأطياف الزمن الذي يكون وقد يكون , دم الحكاية  الشعريّة يُحيل على " دم الروح "          المذكور : " مِن لحْمِي ودمي " ( 18 ) ...
كذا الجسديّة الكاتِبة تُوغِلُ في الغناء مَدْفُوعَةً بانتشاءٍ  حُرّ " هَذيانيّ " تُؤثّث له رخاوةُ مَنْ آثَرَ " الخِفّة "على التنقُّل , بلُغة ميلان كونديرَا ( Milan  Kundura) ( 19 ) , رخاوة السوائل بَدْءًا من الحبْرِ , ومُرورا  " بدم الروح " والخُمور وعوْدًا إلى " الحِبر الحُرّ " , في صباحٍ جديد  هو النافــذة المُطلَّة على سماء بلا حُدود : " سلامِي أيّها الشماليّ
سلامي أيّها الجنوبيّ
صباح الخيْر
صباح الحبْر الحُرّ
يا أحلى طائر ! " ( 20 )
فتنقضي " دَنْدَنات " الأُغنيّة المُرسَلَة  في كتاب " ديلانو شقيق الورد " إلاّ أنّ أغنيّة الحريّة تُواصلُ تدفُّفها الصامت رغم البياض , الخواء , الحصار , الخظْر , المُراقَبة , كجُرْحٍ نازف لا يندمل ورغبة جامحة لا تتوقّف إلاّ بآخر  نَبْض في جَسَد الذات الكاتبة المَسْكونة بشاعريّة الحكمة وحِكْمة الشْعْر .

الهـــوامــــــــــــــــش :
1)  Paul Ricoeur ,   La métaphore  vive  , Seuil ,    1969
2)  سليم  دولة  , " كتاب ديلانو شقيق الورد " , تونس : منشورات فتى نيربا , ط 1 ,                  8200   .
3 ) من النصوص التصديريّة " لكتاب ديلانو شقيق الورد " .
4) Martin Buber , , France : Aubiar , 1969 .
5 ) " كتاب ديلانو شقيق الورد " , ص  14 .
6 )  السابق , ص 18 .
7 ) السابق , ص  20
8 ) االسابق , ص 39  ـ 42  .
9 ) السابق , ص  46  .
10 ) عبد الرحمن بدوي ," الزمان والوجود " , لبنان : دار الثقافة  , 1973 , ص 5 .
11 ) " كتاب ديلانو شقيق الورد " , ص 53 ـ 54 .
12 ) السابق , ص 83 .
13 ) السابق  ص , 88 .
14 ) السابق ص , 95  .
15 ) السابق ,ص, 107 .
16 ) السابق , ص, 119 .
17 ) السابق ,ص , 160 .
18) السابق , ص  , 185 .
19 ) ميلان كونديرا , " كائن لا تُحْتَمَل خِفّته " , ترجمة ماري طوق , لبنان  ـ المغرب : المركز الثقافي العربيّ .
20 ) " كتاب ديلانو شقيق الورد " , ص , 200  .

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث