lundi 10 décembre 2012

ذاكرة تلوح بنهديها ...








 


 


(بمثابة تقديم ديوان: “ليه يا بنفسج” لوليد الزريبي)

(الكاتب الحرّ سليم دولة)

1

لم أرتبكْ.


قدّمتُ، من قدّمتُ من الشّعراء الملفوظين باللغة العربية، ينتسبون إلى جغرافيا الوطن، الوطن المجروح من الوريد إلى المجازات.

قدّمتُ العراقي الجميل والنبيل علي حبش في ديوانه: “سنوات بلا سبب” ـ وهو أمرٌ قد شرّفني به، ذلك العراقي النبيل ـ ولم أرتبك مثل ارتباكي حين لحظتي هذه.


تماما

كما سبق لي أن قدّمتُ أجمل الدواوين الصادرة في الجغرافيا الحبرية العربية، ديوان السوري الجميل حبريا:”حكاية صوفي” للشاعر الناعم نديم الوزّة، الذي لم يسبق لي أن التقيته رأسا إلى حدّ الآن.

تماما

كما كنتُ قد قدّمتُ الراحل الجميل “جمال الدين حشاد”، أيضا، وأيضا كنتُ قدّمتُ “مدوّنة الملاعين الطيّبين” لمجموعة من الشعراء التونسيين الذين التمستُ فيهم طاقة جمالية ممكنة لتأسيس بناء، لاجتراح قول شعري مختلف “عبد الحفيظ المختومي ـ منتصر الحملي ـ المنجي الطيب الوسلاتي ـ حامد المرايحي ـ عياض الشابي ـ صلاح الدين الحمادي”.

قلتُ لم أرتبكْ مثلما أرتبكُ الآن.

أمام نصّ جميل ومُربك وأنيق: “ليه يا بنفسج”؟؟ للشاعر الشاب ـ الذي يحلُو لي دائما أن أسمّيه في غيابه ـ الشاعر الكاميكازي!

أمّا من حيث أنّه جميل فهو يؤذيني، بمعنى يؤلمني بحدسه الأنيق الجميل والجليل!


أنا الذي كنتُ قد تعلّمتُ من الألماني كانط أنّ:”النهار جميلٌ والليل جليلٌ”..

احتراماتي للأمّة الألمانية على تصوّرها للجليل والجميل!

2

إنّ شاعري، حين هذا الحين: “ليه يا بنفسج”، يؤّثثُ بلذة استثنائية حزني الاستثنائي، حين يقول مثلا، مثلا… عند المشرع الشعري السادس عشرة:

الحرّاسُ على البَابِ

نحنُ طِرْنَا بأحلامِنَا

وسكنّا الغيابَ

وأكثر

في الطَّرِيقِ إلى البَيْتِ كلابٌ وأحزانٌ سائبةٌ،

البيتُ الذّي لم يَضِقْ يَومًا بِغَرِيبٍ

صَارَ يَنْبَحُ

هذا ما يُفسّر جغرافيا حزني الشخصي!

لا أحد يصدّق من الخلق ـ حين هذا الحين ـ أنّ رغبة في العواء تسكنني، أستحضرُ: “فضل الكلاب على الكثير من وضع الثياب ” كم وددتُ أن أقبّل المرزبان صاحب هذا الكتاب.

صاحب المكتوب الذي أقدّم: “ليه يا بنفسج” بنرجسية فائقة دون وصاية أبوية يمكن أن يكون حفيدي الحبري الذي به أثقُ.

لو كنت قد تزوجتُ صغيرا لكان هو آخَري الحبريّ. لكن ماذا سأفعل بي أمام هذا النصّ الفاحش؟

جمالا..

لذّة..

استعارة..

وإحالة طفولية خاصّة؟؟

حين قرأته، أول مرّة، ابتهجتُ وتألّمتُ ورقصتُ في سرّي بلا أسف منّي عليّ.

قلتُ لي: درويش يا توأمي الميلادي يا ابن حورية، لم تمتْ كمدا إن خان بعض السلالة، الجميل في السلالة

ثقْ أن في السّلالة من يُحبّك ويُكايدك.

3

لا أظنّ أن ابن حورية حين كتب في قصيدته: “لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي”، إنّي على يقين أنّه كان يقصدك.

لا تُصدّق خلاصتنا وانسها

وابتدئ من كلامك أنت. كأنك

أوّل من يكتب الشعر،

أو آخر الشعراء.

إن قرأت لنا، فكي لا تكون امتدادا

لأهوائنا

بل لتصحيح أخطائنا في كتاب الشقاء !

لا تسلْ أحدا. من أنا؟

أنت تعرف أمك

أمّا أبوك… فأنت!

كم سأتلفني مع الشاعر وكم سأتلفني مع حفيدي، هكذا هو الأول يتيم عاطفي، وهكذا هو الثاني وليد الزريبي.

لن أجدني إلا في أجمل الخسارات الحبرية، أحبّ هذا، والآخر أحبّني وأحبّه.

4

كم عشنا طويلا على أسطورة “نرسيس الماء” لم نفكّر بما يليق ـ نحن العرب بحجم حضارتنا ـ أنّه ثمّة أكثر من نرسيس للصحراء.

الشعرُ ظاهرة لا تنبع إلاّ في التصحّر

نُسمّي تصحّرا حين نرى ذواتنا في مرآتنا فلا نرى غير سوانا. أليس الشعر كما الفتوّة يستلزم التدريب والتدرّب على الخطو مع الجياد؟

هل ثمّة من فارس لم يسقط ولو مرّة واحدة على الجواد الذي يريد؟

فكرة الثّبات، والزّائل، والذاكرة، ثابت رئيس في هذا النص الوليدي الجميل الذي أصرّ، لكن بطريقة ناعمة أن يكون أكثر “كاميكازيا” من ديوانه الأوّل “كاميكاز”.

شكرا لحضارة الشرق أيضا التي ألهمتنا هذا المجاز / ولا أقصد غير اليابان:

بلا فكرة ثابتة،

تسير الحياة نحو الكتاب الأخير للاعب النّرد

حياة طبق الأصل. لا أهل لها ولا فصل

هل كنتُ أخونني؟

لا.

إنّي عاطفي. لستُ محايدا. لا أحبّ إلاّ ما يُعجبني. الذي يُعجبني هو الذي أسمح له بأن يؤلمني. يقول الشاعر الكاميكازي:

وطني أيّها السرّ الكبير

ما هذه العقدة التي سبّبتها لنا

لنتصرّف في كل شيء كاللصوص وقطّاع الطّرق

وأن نحيا بسرّية تامّة

نكتبُ بسرّية..

نبكي بسرّية

حتّى أصابتنا عقدة السرّ الكبير

فهجرنا زوجاتنا وأدمنّا العادات السرية”.

كم أقتُلني بي…!

5

في النصّ الوليدي استرجاع للحظة حاسمة، أليفة وربما قاتلة.

ولادة الحدث السردي المتعلّقة فعلا، بالحدث الولادي ـ ولادة الشاعر ـ في ذلك المكان عينه، إيّاه، هو نفسه الذي يشي به الحبر. بماذا يشي الحبر؟

طفل يولدُ في مقام “الإله الصامت”…

استحضار الألوهية والروحانية والصوفية وشفافية الانتماء للذات، كليّة الحضور في هذا النصّ الشعري، إلى تهجّي أبجدية الخلق الأولي، لذلك تحضر سريّا أفعال الاندهاش والانشداه من فعل الخلق ذاته.

كيف خُلقتُ؟

من أين جئتُ؟

هل الواقفة أمامي أمي؟

هل الذي يأمرني أبي؟

هل الذين يحبّونني إخوتي؟

اندهاش يفتح التسيار الحبري إلى الشكّ، في جميع الجهات والجبهات: الجهات والجبهات، جبهة الحاضر الآسر، وجبهات المرئي اللاّمقدور عليه إلى حين

6

في ديوان وليد الزريبي:”ليه يا بنفسج” يستحضر ثقل الأشياء وجبهة الماضي التي تريد الذات الشاعرة ـ الكوجيطو الشعري ـ لدى وليد الزريبي، القبض على المنفلت من لحظتها، فكانت الخيبة وكان البكاء، واستحضار الوجعي والغزلي من آداء غنائي شرقي “ليه يا بنفسج”؟؟

7

يحدث للعشق أن يُبكي… وأبكي.

ونبكي مع “ليه يا بنفسج” مرّتين.

مرّة حين يتسقّط السّمع آخر الليل لليه يا بنفسج.

وأخرى حين أقرأ هذا الديوان على شموع غير عاطفية بلا أسف منّي عليّوعلى الدّنيا.

ثمّة من سينوبني عن حزني وتوغّلي الحبري.

فلماذا أنا حزين إذن؟؟؟

8

هكذا تعلّمتُ التدرّب على التفاؤل، من هذا النصّ “ليه يا بنفسج”، طالما أنه ثمّة من يجترحون، بلذّة ومحبّة، وتوغّل عاطفي مثل هذا “اللّيه يا بنفسج” للشاعر التونسي وليد الزريبي.

9

الشعر أداء كتابي لدى وليد الزريبي في:”ليه يا بنفسج” لا يقود إلاّ للخسارات العاطفية… وما يليها.

كم أجدُني في هذا النصّ الذي كنتُ أرجُو أن أكون كاتبه!

10

يظلّ الشاعر الحبريّ والليليّ، المُتوحّد بذاكرته المؤلمة، مُوجع وموجوع، لكنه يستطيب وجع الذاكرة، يتداوى بحبره.

يشكّ

يرتبك

يحنّ

يئنّ

يرقص قلبه على إيقاع الخبب حينا، لا يلتفت إليه

قد يحنّ إلى الرّجز، لا يلتفت إليه

المُنسرح، لا يلتفت إليه

إلى ما يعلم من بحور الخليل، لا يلتفت إليها… لأنها منه.

هل ثمّة أحزان كلاسيكية؟

الإجابة للشعراء.

11

أجدُني أتهجّى وجعا… كنتُ أزعم أنّي أختصّ به.

وإذا بي أجدني دون وعي منّي في هذا النصّ الشعري ـ الوليدي الزريبي ـ المكتوب بوعي ملحمي

أنّي أنا المَبْكِيُّ عليه.

12

الطفولة، هذا الحسّ الطفولي الإيكولوجي المُزارع، هو حسّي.

13

الشعر، كما الجمال في جميع جُمَّاعِ لغات العالم، يُحيل إلى الإحساس.

14

الموضوعية شأن أكاديمي!

15

صوت المديح العالي، مشاهد الطبيعة، الرّعاة، أهل العشابة والعشّاشين، سادة العشب الفعليّيين هم سُلالة الشاعر، وسُلالتي.

16

لا حياد في الحبّ كما في الحرب كما في الشعر تماما.

ولستُ مُحايدا!

17

هل عليّ أنّ أصدّق

أنِّيَ

جلستُ

يومًا

على كومة من تبن

غارقًا في الرّمادِ

أصغي لفرسٍ عضّني

الجواد لا يخون الجواد، وحدهم المجروحين بالخيانة لا يدركون قيمة الجواد.

18

ثمّة، فعلا، ثمّة نزعة رعوية أكيدة في هذا المكتوب الشعري.. وثمة تقتّل حبري أنيق، يرصد عناصر التكوّن والتلاشي للهوية الكاتبة.

تقتّل حبري يمارس أخطر أشكال اللعب على الإطلاق: اللعب اللغوي لتهجّي جرح نرجسيّ.

19

ما الذي يفسّر استحضار البنفسج؟؟

البنفسج أخ النّرجس، النرجس من رأى نرسيس صورته في الماء، ولنرسيس أخ توأم يمكن تسميته نرسيس الصحراء.

الشعر لدى وليد الزريبي منغرس في الحضارات والحواضر الكتابية لكنه شفوي المدى!

نرسيس الصحراء، لنرسيس الصحراء أدوات صيد كما كان لنرسيس الماء:

الرؤية..

البوصلة..

البصيرة ناهيك عن حدّة البصر..

ليس صدفة أن يعود صاحب نص ديوان:”ليه يا بنفسج” إلى الأفق الرّحميّ، مسقط أنامل الشاعر ومزرعة الكائنات الحميمية لديه، بكل ما يؤدّيه النص من شفافية قاتلة في المضيّ إلى جغرافيا اليومي وتشقيقه المعاني مستحضرا مساحات الفيض الحبري.

الاعتناء بالمرئيات كثيف، وكذا الشأن للمسموعات والمشمومات، مع شغف غريب للإيقاعي.

وليد الزريبي الشاعر الكاميكازي “مالوماني” إلى حدّ الوجع، إيقاعي:

فم الريح..”

الموشّح..”

النشيد..”

ليه يا بنفسج”…

جميعها مؤدّاها حدائيّ، عتابيّ حدّ التّلف، تلف الذات بلا أسف منها عليها.

يقول الشاعر:

ذلك الشتاء في “الزريبة” (1)

رأيت نايا مليئا بالثقوب يضع رأسه على كتفي أمّه

رأيت دالية تندلق من فم الرّيح وتتثاءب في الكؤوس

وأكثر:

رأيت الحطب ينسدل ضفائر على أكتاف النساء

وأكثر:

رأيت الرغيف يتّسع لأكثر من فم

وأكثر:

رأيت أرجوحة الريح..

خدعتني طفلا

وأوصلتني إليك”..

وأكثر:

رأيت.. ما رأيت

رأيت الزريبة

تُمطرُ ولا تُمطرُ

غير أني لم أعد أعرف كيف أبتلّ بالذكريات”!

فكيف سأتلفني؟

20

شاعر، هذا شاعر ضدّ الشعراء الذين هم بلا موهبة، تُسعفهم فقط العادة الحبرية بالاستماع!

21

الآن وقد توغّل الليل في بعضه

أجدني أشكرك لأنك تجرّأت أن أقدّم بعد موتي، وحين حياتي، حبرك.

شكرا لك لأنك شرفتني بتقديم أجمل حبرك.

شكري لأم مرسيل.

شكرا لكلّ جغرافيا أنثوية، تتدرّب حقا وحقيقة، على تحمّل مجازات الشعراء.

شكرا “لمرسيل” (2)

عسى أن يذكرني حين يلفّني كتاب الكون.

سأكون أكيدا معك.

…………………….

(1): مسقط رأس الشاعر.

(2): ابن الشاعر.

ذات فجر تونسي، وقد توغّل الليل في بعضه.

22 / 12 / 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث