lundi 3 décembre 2012

صدام حسين أنتج فقه الفٌقراء ضدّ فقه الأمراء..فكان .. ماكان ؟


سليم دولة: صدام حسين أنتج فقه الفٌقراء ضدّ فقه الأمراء..فكان .. ماكان ؟

·   أجرى الحوار: الشاعر السوري هادي دانيال ونشر كاملا  بمجلة "آفاق عربية " "1991 وأمر صدام حسين بتعميمه على " كوادر الحزب " رغم ماورد فيه من نقد " للبعثيين " .وها اني أنشره اليوم دون تعديل اذ لم أحدف أحذف ولوحرفا واحدا ...للذاكرة اذ ثمة من الساسة من تختلف معهم في الوسائل والغايات وثمة من الساسة من تتفق معهم في الغايات وتختلف معهم في الوسائل كما هي عليه علاقتي ب"حزب البعث العربي الإشتراكي " كما " ثمة من الساسة من يصدر في مواقفه عن مبادئ وثمة من يصدرون في مواقفهم عن انتهازية "  وفق عبارة لصدام حسين المجيد عملا بالحكمة البراقماتية النفعويَة :" ليس _ في السياسة – من أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين اذ للوطن مصالح  لا غير" . مع الاعتذار على جهلى الرقمي في " توزيعه البصري " تسهيلا للقراءة ..لمن بريد طبعا
·   .ما فائدة الإطلاع على حوار أجري منذ 20 عاما ..لا أعرف ؟
·    
·   جرأته الفكريّة والبلاغيّة المدعمة برصيد معرفي ونضالي وأخلاقي تمنح كتابته قيمة نوعيّة وتأثيرا نافذا ليس في صفوف الطلبة والشباب فقط بل وعند القرّاء الجادين عموما. وهذه الجرأة جرته إلى المحكمة في النصف الثاني من الثمانينات عن مقال نشره في مجلة "المغرب العربي" لتحاكمه السلطة على مجموعة من المقالات نشرها في المجلة المذكورة. إلا أنّ شهرة سليم دولة في المغرب العربي و أوروبا تعود إلى مقالاته في مجلة مثقفي اليسار التونسي "أطروحات" فضلا عن كتابه "ما الفلسفة؟" الذي يستعد لإصدار طبعته الرابعة.
·    
ومع أنّ عشيّة العدوان على العراق وأثناء الفترة الزمنية التي احتلها العدوان الغاشم طفحت الصحافة التونسية بالمقالات والدراسات والأشعار والخواطر المساندة بحماس عقلي وعاطفي للموقف العراقي، إلا أنّ المقالات التي كتبها ونشرها سليم دولة الفيلسوف التونسي، خاصة بعد وقف إطلاق النار، كانت الأكثر تأثيرا وإثارة للجدل لما تحمله من أفكار صيغت بتعاضد مخلص بين العقل والوجدان، وكأنّ أمّ المعارك كانت اللحظة التاريخية التي ينتظرها هذا الفيلسوف الشاب ليعلن قوّة وعمق الذات الحضارية التي توهّم الفرنكفونيون أنّها شبعت موتا بإشاعة اللغة الفرنسية وأشكال الإيديولوجيات الغربية، اليسارية منها واليمينية.
·   إذن كانت أم المعارك منذ 2 آب 1990 اللحظة التاريخية الحاسمة التي كشفت لقرّاء الفيلسوف سليم دولة مرجعيّة خطابه العربية أدبا وفكرا وفلسفة.. إلخ.
ولئن كان اليمين المحلي قد ذُهل من الحس القومي العالي عند هذا المثقف اليساري فإنّ الفرنكفونيين شعروا بخطر مباشر يشكله نموذج "سليم دولة" عليهم ففقدوا الحد الأدنى من اتزان العقلانية والليبرالية وحرية الفكر والتعبير التي يدّعون، واندفعوا يقيسون ويزنون أفكار سليم دولة التي أطلقتها مقالاته المعدودات بمقاييس ومكاييل جورج بوش، ويطلقون حولها صيحات الفزع والاستنكار.. هذا كله يحدث بينما صديقي الفيلسوف يفاخر بالأوسمة التي رشقوا بها صدره ووسموا جبينه عندما نعتوه بالعروبي والصدّامي، مما يزيد في طعم القهوة التي نرتشفها في مقهى باريس لذة.. ويزيد الحائرين حيرة.
في المقهى المذكور، الواقع في قلب شارع الحبيب بورقيبة، بين تمثال ابن خلدون وساعة السابع من نوفمبر، وبمناسبة هجوم جديد شنته مجلة فرنسية ضد الدكتور "هشام جعيّط" والأستاذ "سليم دولة" في إطار هجوم مستمر على الكتاب ووسائل الإعلام التي لم يجرفها الطوفان الأمريكي بعد، ابتدأ حوارنا مع الفيلسوف سليم دولة في الساعة الثالثة ظهرا ليستمر خمس ساعات متواصلة، وكان طبيعيا أن يسيطر على حوارنا الشعور الذي نتقاسمه إزاء تقصير الشارع العربي وتواطؤ النظام العربي وتورط العالم في مختلف فصول الجريمة  المستمرة ضد شعب العراق العظيم، وكانت الأسئلة من وحي حواراتنا اليومية، وفيما يلي نص الحوار الذي تداعى فيه "سليم دولة" على جرحه/جرحنا القومي المفتوح:

- بعد أن توقف العدوان الثلاثيني على العراق عسكريا واستمرّ اقتصاديا وإعلاميا وسياسيّا.. انكفأ "الضمير القطري" على نفسه في شرق الوطن العربي ومغربه وكأنّ بقية أشكال العدوان على العراق لا تعني العرب شارعا ونُخبا.. كيف تفسّر ذلك؟.

- إنّ تسارع الأحداث على جميع الأصعدة محليّا وعالميّا تجعل الملاحق لوقائعها لا يقوى على تعقل منطق هذه الأحداث بسهولة، إذا بعد الحرب المباشرة ضد العراق تنهار أمام أعين العالم إمبراطورية بكاملها وتتمزّق أشلاءً وهي القوة العظمى التي كان الوعي الثالثي يعتبرها حصنا حصينا ضد القوة الأغشم في العالم/أمريكا. وهذا الحدث يجعلنا مضطرين إلى إعادة النظر ليس فقط بالحرب الأممية ضدّ العراق وإنما بمصير العالم وقد اتخذ اتجاه الأمركة المعمّمة. وقد يكون نموذج الانهيار الإيديولوجي الشيوعي دالا على مدى تغلغل تخطيط الأمريكان للإطاحة بكل ما من شأنه أن يشكل عائقا أمام "المصلحة العليا" لأمريكا، وهو ما يؤكد عليه بوش بكل ابتهاج هذه الأيام. في هذا الإطار نفهم جيّدا كيف كان الأمريكان ولا يزالون يخططون لإلحاق كل أشكال الضرر بالعراق، فكان ما كان. إنّ سكوت الشوارع العربية وتنحي النخب عن مسؤولياتها التي اضطلعت بها في الخمسينات والستينات ليس جديدا، إذ تراجع دورها بعد أن جرّب العرب محاولات نهوض كلها- في رأي الأغلبية- لم تُبق غير الرماد تحت الألسنة. وهو ما يفسّر نجاح الإعلام الغربي في استثمار المخزون الهزائمي لدى كل من الشارع العربي والمثقف العربي والأمير العربي. إذ لا أحد من هذا الثالوث كان يصدّق حتى إمكان قبول المواجهة العسكرية بين العراق والأمريكان ومشتقاتهم. أمّا وقد حدثت المواجهة العسكرية فقد تغيّرت بعض المواقف في الشارع العربي كلّه، في حين أنّ النخب انقسمت على نفسها قسمين: قسم سند العراق بلا قيد ولا شرط، كما يقال، إيمانا منه بأنّ قضية العراق قضية عادلة بقطع النظر عن شرعية ولا شرعية التدخل في "الكويت"، ذلك أنّ هذه النخب تدرك جيّدا أنّ "الكويت" ليست إلا تعلّة لضرب العراق والإجهاز على كل مكتسباته العلمية إذ لا تسمح الايدولوجيا الأمريكية بأن يمتلك سواها العلم والتقنية لأنّها سرّ السيطرة على الشعوب وسوقها في اتجاه الأمركة المنسقة، ومن هنا ارتبط ضرب العراق بهدفين اثنين: احتكار العلم والمعرفة، والقضاء على آخر مواطن الفكر القومي. وهذا الصنف من النخب لم يكن قادرا رغم مجهوده على تجنيد الشوارع لأنّ أغلبه كان مهمّشا لم يتسرب إلى المؤسسات الفاعلة والقادرة على تجنيد الشارع.
أمّا الصنف الثاني من النخب فهو المرتبط بالمؤسسة الأميرية القطْريّة. ومن خصائص هذه المؤسسة أنّها دجّنت هذا الصنف من النخبة إذ أصبح يأتمر بأوامر السلطة في بلاده فلا يرى إلا ما تراه ولا يقرّر إلا ما تقرّره، وهذا ما يفسّر بدوره سقوط الأغلبية العظمى من كتّاب وشعراء وروائيين في التبرير الواهي لضرورة التدخل الأمريكي لحماية الكويت. ومن هنا نتساءل عن جدوى وفاعلية تحرّك الشارع أثناء الأزمة وخلال الحرب.
فإذا كان المثقف لم يستطع التخلّص من الوعي السلطوي والخوف من كلّ أشكال القهر ليفكّ عن نفسه الطوق أو السلاسل للتعبير عن رأيه بوضوح فإنّ الشارع وإن تحرّك وضغط بنسب مختلفة لم يكن قادرا على أن يمضي أبعد وأن يفعل أكثر. من ذلك مثلا أنّه لا أحد من الشوارع العربية استطاع أن يهدّد جديّا المصالح الأجنبية في هذا القطر أو ذاك، والحراسة المشدّدة من قبل الأنظمة القطرية للمصالح الأمريكية ومشتقاتها لا تفسّر وحدها هذا العجز. هناك شيء غائب يتمثّل فيما يمكن تسميته الفراغ العقائدي الإيديولوجي. لقد أفرغت الأنظمة القطرية متساكنيها ولا أقول مواطنيها من الولاء إلى أيّة أيديولوجيا سوى الانصياع القطيعي في اتّجاه المجتمع الاستهلاكي فتغلبت المصلحة الفردية الأنانية على المصلحة الجماعية، وتغلّبت المصلحة القطرية على المصلحة القومية، وفي هذا الإطار تُفسَّر جميع أشكال الإخفاقات التي مني بها الشارع، ليس خلال هذه الحرب فقط، وإنما خلال كلّ أشكال المواجهة مع إسرائيل..

- هل هذا يعني أن التنظيمات الأصولية الإسلامية، والقومية، والماركسية، التي تتقاسم الشارع العربي بنسب مختلفة لم تسدّ الفراغ العقائدي الإيديولوجي الذي أشرت إليه؟

- إنّ المتأمّل في الخارطة الفكرية والسياسية الأيديولوجية وخاصّة فيما يتعلق بالمغرب العربي يتبين له أن الأمير- وأنا أستخدم كلمة أمير بدلالتها الميكيافلية- أوجد له أشكالا مختلفة للتفرّد بالسلطة. وكلّ أشكال الاستبعاد ضدّ كل من يخالفه الرأي، أعني أنّه لا يؤمن بالمعارضة، إلى حدّ أنّ أحد الرؤساء المقالين سياسيا في المغرب العربي حينما سُئل عن اليسار قال: لا يسار سواي. في حين أنّه يميني أمريكي النزوع إلى النخاع. وفي هذه الطرفة الحقيقية إشارة واضحة إلى غياب المعارضة أو ما أسميه تقاسُم الشارع بين فئات أيديولوجية متعدّدة وفاعلة. 
وهناك نمط آخر من الأمراء اتّبع شكلا آخر في التعامل مع من يسمون أنفسهم معارضة - وهم في الحقيقة من صنع الأمير ذاته. لذلك فهي، معارضتهم، شكلية لا تحيد في موقفها أو تزيد عن الموقف الرسمي. أقصد هي معارضة هشّة وإن صدقت نوايا الكثيرين من أفراد هذه الكتلة السياسية أو تلك. ولقد بيّنت لنا الحرب العراقية-الأمريكية أنّ البعض من الأمراء حينما تملّكهم الخوف من الشارع وتجاوزاته المحتملة فضّلوا الانحناء قليلا للشارع وزايدوا عليه بدهاء، وبذلك اقتصدوا في طاقة العنف التي كانوا سيضطرون إلى تصريفها ضدّ مواطنيهم، فبدت هذه الأنظمة ملتحمة بشوارعها كما لم تكن أبدا فحوّلت تهديد الشارع لها إلى حساباتها التكتيكية والإستراتيجية، من ذلك مثلا أنّ بعض الأنظمة وظّف تلبّك وتردد الحركات الدينية في مناصرتها للعراق لإقصائها نهائيا عن الشارع، إذ أصبح يطعن في وطنيتها وكأنّ هذه الأنظمة أكثر وطنية من هذه الحركات، في حين أنّها تشترك - الأنظمة والحركات- في اللاوطنية، وهذا لا يتطلب أي دليل أو برهان إذ يكفي مجرّد التردّد حتى تنهار كلّ الشعارات التي لم تزد وظيفتها على وظيفة الهدف التعبوي الديماغوجي. لقد اختلطت المواقف وتباينت وظهرت المفاجآت، من ذلك مثلا أن ثمَّت من كان يُحسب على اليمين لم يدّخر جهدا للدفاع عن العراق بكلّ ما أوتي من قوّة، وهناك من كان يُحسب على القومية وعلى "البعث" تحديدا لكنّه لم يفعل شيئا وبقي أشبه بالمتفرج - ولهذا الذهول مبررات لا أعرفها. وثمَّت أيضا من يُحسب على اليسار في حين أنّه انقلب وفق منطلق عجائبي إلى مناصر للأمريكان. لقد هزّت هذه الحرب قناعات كثيرة وأطاحت بأقنعة متعدّدة، وأيقظت الجميع من أوهامهم المختلفة، وهنا ربما تكمن قيمة هذا الامتحان. وباختصار، رغم كلّ محاولات المناصرة بقي القول الفصل للأنظمة السائدة.

- .. هذا يعني أنّ الشارع ومصيره كانا ولا يزالان رهن يد الأمير، بعيدا عن إرادة وإدارة من يدّعون امتلاك وتمثيل الشارع من الأصوليين الدينيين والقوميين والماركسيين؟


- صحيح. فرغم تعدد الفصائل الأيديولوجية والتنظيمات العلنية والسرية من ماركسية وقومية وحتّى الليبرالية منها، فهي لا تملك طاقة تعبوية، ذلك أنّها هشّة التكوين، لا تصدر عن أطروحات واضحة إن حول مسألة التحرر الوطني أو حول مسألة الأمّة، وليس لها تقاليد تنظيمية، باستثناء الحركات الأصولية التي يُنظر إليها من قبل أغلبية الشارع بحذر شديد، لأنّ إدّعاء الانتماء إلى الإسلام ليس كافيا لجلب المؤيدين والأنصار، إذ كم من أمراء مستبدين لا تزال تحتفظ الذاكرة الجماعية بما مارسوه من أشكال القهر مرتدين بُرْد الإسلام.
كما أنّ الحوادث المُعايَنَة والوقائع المُشاهَدَة تبيّن أنّه لا وجود لأيديولوجيا إسلامية واحدة، إذ عن أيّ إسلام يتحدث هؤلاء! عن إسلام فهد! عن إسلام الخميني! عن إسلام من..؟! ومن هنا بإمكاني أن أستنتج أنّه لا وجود لنواة صلبة في الأيديولوجيات المعارضة. فالماركسية والقومية ذاتها - وخاصة أثناء العدوان على العراق- تفتتت نواتها إلى قوميات وإلا ما معنى أن يسكت أحد أمناء القومية العربية خلال الحرب؟ لا أفهم!.. فضلا عن ذلك كان الشارع وخاصة في المغرب العربي يتجاوز السلطة وجميع الفصائل السياسية ولك في أحداث الخبز التي تكرّرت في أكثر من قطر مغربي شاهد على ذلك. إذ لا السلطة ولا التنظيمات السياسية ولا النقابية تمكنت من تأطير الشارع فعبّر عن نفسه بأشكال تمرّد وعصيان لأنّ الأمر يتعلق بغائب آخر هو التنظيم، ففي الأحداث الحاسمة غالبا ما تعمّ فوضى المبادرة الفردية ويغيب الفعل المنظم وذلك ما حدث خلال الحرب. فلمساندة العراق هل كان مثلا من الضروري أن ينتظر هذا التنظيم السياسي أو ذاك تأشيرة من السلطة الحاكمة للقيام بمظاهرة، مجرّد مظاهرة لمساندة العراق؟! ألم يكن باستطاعة مختلف الفصائل أن تضع خلافاتها بين قوسين لتقف صفا واحدا من أجل فرض موقف، وحتى صياغة بيان؟ أظنّ أنّ الحسابات الضيقة والمصالح الآنية والمراهنات الفارغة كانت وراء لا نجاعة ولا جدوى ولا فاعلية وقوف الشارع إلى جانب العراق قلبا وقالبا.
- بدا لي خلال الحرب كأنّ الشارع وتنظيمات المعارضة والنخب الثقافية ترجو الأمير اتخاذ موقف إيجابي، ولو غير مباشر، يقيلها من مسؤوليتها القومية الأخلاقية إزاء العدوان المعموري - كما تصفه أنت- على العراق. كيف تُفسّر هذه الرغبة في الاستقالة علما أنّها رغبة دفينة سبق وأن عبّروا عنها إزاء قضايا اجتماعية قطرية؟.

- هذا السؤال يحيلنا على أكثر من تفسير. لقد خصّص أحد الباحثين العرب، هو مصطفى حجازي، كتابا مهمّا نجد فيه مبررات وتفسيرات واضحة لمثل هذا السلوك الذي عبَّرْتَ عنه بكونه يعود إلى رغبة دفينة بالاستقالة. فيما يعنيني، أنا لا أنفي هذه الرغبة الدفينة، ولكنّها ليست ثابتة، بمعنى أنّه يوجد لدينا مكبوت مُركّب كبتيّ مزدوج، أقصد رغبة الفعل، رغبة الانتقام من الغرب، توجد جنبا إلى جنب مع رغبة طلب الثأر من هذا العدو، لكن هذا الثأر لا نقوم به نحن وإنّما نجد من ينوب عنا في تحقيقه. وتلك هي خصائص من يسميه مصطفى الحجازي "سيكولوجية الإنسان المقهور". لذا ما من شك أنّ الرئيس القائد صدّام حسين في اللاوعي الجماهيري العربي إنّما هو بمثابة الولي الصالح الذي يهرع إليه رمزيا كلما إشتدّ بؤس الواقع، ومن هنا فيما يبدو لي قليل هو عدد مَنْ ينظرون إليه على أنّه ثوري قومي وليس وليا صالحا. فالاحتماء به من بطش الغرب يفسّر تسميات المواليد الجديدة العديدة بالاسم المبارك "صدّام"، هذا السلوك الخارقي له منطقه ويعود أساسا إلى سلسلة من الهزائم النفسية سواء الجماعية أو نتيجة للشعور بالخصاء والتدجين والاستبداد الذي يمارسه الأمير المحلي/القطْري لسنوات وقرون خَلتْ. فإذا كان الانتماء إلى الوطن/القطْر مهزوزا لدى هذا الجيل - جيل ما بعد الاستقلال- فكيف يكون الانتماء إلى المشروع القومي؟.
فموقفي أنا كمواطن لا يختلف عن موقف رجل الشارع، إذ ماذا كنت أنتظر من السلطة وأنا أدرك جيّدا أنّني عاجز كأتمّ ما يكون العجز، فالكتابة التي هي "مهنتي"، لم تعد زمن الحرب قادرة على فعل شيء، وكان المطلوب عملا آخر، فعلا آخر، وهذا ما يفسّر موقف الكثيرين من الكتّاب الذين أعرف، بتساؤلهم حول جدوى الكتابة في لحظات وأوضاع يكون خلالها "السيف أصدق إنباءً من الكتب". وأنا بدوري تمنيت على السلطة، وبكثير من الغبار مني، أن تدخل هذه الحرب بأضعف الإيمان، وهو ما يعني هنا مقاطعة جميع دول العدوان على العراق للتو، لحظة الهجوم. لكن منطلق المصلحة القطرية/البنكية/البترودولارية تغلـَّبَ على منطلق الانتماء إلى القومية، وهذا ليس خاصّا بتونس وإنّما ينسحب حرفيّا على أمراء العرب جميعا باستثناء الملك حسين..
- هذا يقودنا مباشرة إلى تساؤل طالما نسيناه أو تناسيناه وهو: طبيعة الأنظمة القطْرية؟ هل هي أنظمة وطنية؟ وهل هي دولة الجميع.. دولة الأثرياء أم دولة الفقراء؟.


- .. تماما يفتح هذا السؤال على أحد رؤوس الأموال الرمزية الأساسية للعرب، كنا نعتقد أنّ الدولة دولة الجميع، وإذا بها دولة الأثرياء - وأقولها صراحة ودون تلبّك- هي ليست دولة الفقراء. لذلك تجد الثري في هذا القطر أو ذاك على استعداد تام للتحالف مع ثري هذه الدولة الغازية أو تلك. وعلى سبيل الافتراض لو حدث أن أمير هذا القطر وطني أو تحرك عنده شيء من العزّة الوطنية أو الانتماء إلى العروبة والإسلام فإنّه يظل في نهاية التحليل - وهذه مفارقة- ليس سيّدا حتى على دولته. لماذا؟.  
لأنّ رأس المال الأجنبي ونتيجة للتقسيم الدولي للعمل هو الذي يملي عليه في نهاية التحليل مجمل قراراته الوطنية. فالوقوف إلى جانب العراق زمن الحرب وقوفا ناجعا وفاعلا من قبل هذا الأمير أو ذاك كان يعني ضمن ما يعنيه المغامرة بالكرسي وسدّة الملك كما تقول العرب. وهكذا نصل إلى مسألة حاسمة كانت دائما تحرّك عقل الأمير العربي: التمتّع بلذّة السلطة ألذ من اللذة.
العدوان الثلاثيني على العراق - كما أرى- هو المعركة العسكرية الوحيدة حتى الآن في سياق حرب عالمية ثالثة تشنّها المصالح الأمريكية على إيديولوجيات الشعوب، فانهارت الأيديولوجية الشيوعية بفضل تحييد السلاح النووي الذي كان مقدمة للإجهاز على الأيديولوجيات اللاأمريكية.. فهل يمكننا أن نبني على قاعدة "أم المعارك" سلاحنا الأيديولوجي الجديد الذي نواجه به هجوم المصالح الأمريكية الذي يعمّ الكون.. وكيف ترى ملامح هذه الأيديولوجيا الجديدة؟.
غالبا ما نأخذ الأسباب مأخذ النتائج، أو النتائج على أنّها أسباب. والتاريخ المعاصر لا يمكن أن يُفسَّر بالمعيش اليوميّ أو بالبراهين واللحظي وإنّما يخضع لمنطق يختلف عن السياق الخطي الساذج للتاريخ. لقد خطّط الأمريكان لنزع السلاح، وكان نزع السلاح ولا يزال شعارا أيديولوجيا، مضمرا، خطّط له العقل الحربي الأمريكي بدقّة متناهية من خلال ما أسْمِيَ منذ الخمسينات موت الأيديولوجيا. فَنَزْع السلاح الحربي و"لاعسكرة" العالم قد تمّ التقديم له أمريكيا بشعار نزع أو موت الأيديولوجيا.
فما الذي يحرّك لافتة موت الأيديولوجيا وفلاحة قتلها أو اللاأدلجة؟.
لا نستطيع الإجابة على السؤال المطروح دون أن نحدّد ولو بشكل إجرائي معنى الأيديولوجيا. فما الأيديولوجيا؟.


إنّ الكلمات الأكثر تداولا غالبا ما تكون أكثر الكلمات زئبقية مثل كلمة "الإيديولوجيا " بالذات وكلمات النظام العالمي الجديد، حقوق الإنسان، والشرعية الدولية.
فالايديولوجيا إنّما هي مجموع التصورات التي ينتجها شعب ما أو طبقة أو مُنتظَم مهني في لحظة تاريخية محددة، والتي يعبّرون من خلالها عن كلّ مرتجياتهم وأحلامهم وتطلعاتهم، ويصوغون من خلالها حتى شكل احتجاجاتهم. وباختصار، إنّ الايديولوجيا إنّما هي مرشد للسلوك الاجتماعي أو الفردي الذي لا يمكن إلا أن يحدد من خلاله الفرد والجماعة رؤيتهم للوجود وطبيعة إقامتهم في العالم، ويظلّ البعد النفعي الذي يفتح على النجاعة والفاعلية هو الهم الرئيس والهدف الأساس لكلّ إيديولوجيا لكونها هي تكنولوجيا التعبئة الجماهيرية. والعقل الأمريكي، وفقا لمنطقه الخاص، لم يكن اعتباطيا حينما خطّط منذ الخمسينات لقتل الأيديولوجيا وتتفيهها حتى كعبارة، فكيف ذلك؟.
إن كانت أمريكا قد استطاعت أن تحوز على العالم والتكنولوجيا وصار العلماء لديها يعوّضون الفلاسفة، والتكنوقراطيون المفكرين، والإشهاريون المبدعين، فقد كان لا بد من قتل المشرد السلوكي لدى من لا يملكون التكنولوجيا. ومن هنا تبين لهم أنّ أخطر من يمتلك التكنولوجيا والعلم هي الكتلة الاشتراكية ممثلة في الاتحاد السوفيتي، لذلك خطّطوا لنسفٍ ثنائي: نسف الأيديولوجيا الليبرالية من ناحية، وتحييد التكنولوجيا، وخاصة التكنولوجيا الحربية من أجل انتشار سرطاني لما يُسمى بالأمركة أو أسطرة النمط الأمريكي للحياة. 
وهكذا يبدو أنّ انهيار الشيوعية كأيديولوجيا منافسة للأيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية- كان أكبر فرصة احتفالية بالنسبة للرأسمالية. وأنّ ما يحدث الآن هو تدعيم جزئي للمقولة اللينينية: الامبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية. كيف نفسّر هذا النزوع الأمريكي المتعطّش لامتصاص أنبل وأزكى طاقات الشعوب؟ لا شكّ أنّ العقل الامبريالي الغزوَوي أكثر نشاطا وديناميكية من العقل الاشتراكي الشيوعي.
على كلّ حال، لا يمكن عزل ما يحدث للإمبراطورية السوفيتية عن ما يحدث في كلّ مناطق العالم، وعمّا حدث بالنسبة لنا نحن العرب. فهل كانت الحرب المُنسّقة المعمورية الأممية ضدّ العراق نتيجة إدراك وتيقـُّن لما عليه الاتحاد السوفياتي من عجز وشلل أم أنّ استعراض العضلات الأمريكية على العراق كان امتحانا فعليّا للتأكُّد من أنّ الميت السوفياتي قد مات حقا؟.. أو لعل بوش أراد أن يتأكّد من صدق توغل الأمركة في عقل غورباتشوف. ألم يؤكد بوش على أنّ ما يحدث في الاتحاد السوفياتي يدعو إلى البهجة وهو ينطبق تماما مع "توجهات الدبلوماسية الأمريكية"؟. فالعراق لم يزل محاصرا اقتصاديا وإعلاميا حصارا منسقا وفعل الانهيار أخذ يتسارع في الاتحاد السوفياتي. أليس ثمّة تلازم بين العمل على تحطيم العراق اقتصاديا وسياسيا وتمزيق الاتحاد السوفياتي حتّى جغرافيا؟ إنّه من الغريب حقا أن نلاحظ كلّ هذه الاحتفالية بما أسماه أحدهم ثأر الأمم لنفسها - وهو عنوان كتاب فرنسي صدر مؤخّرا- وبنهوض كل منها كعنقاوات رمادٍ من ناحية، وأن نلاحظ من ناحية أخرى كيف يعملون على قتل جُزَيء من أمة، أقصد العراق.
إنّ منطق الرغبة والمصلحة ينتصر ولو إلى حين على منطق العدل والحق، فهل نشاطرهم الإقرار بشرعية الشرعية الدولية؟ وهل نشاطرهم ترديد مقولة موت الأيديولوجيا؟.
 
- إذن يتوجب علينا أن نحاصر مقدمات وتفاصيل ونتائج "حرب الخليج" بوعي نقدي، وأن نعتبر من دروس "أم المعارك" العميقة لصياغة سلاحنا الإيديولوجي الفاعل الآن ومستقبلا؟.


إنّ تسمية "حرب الخليج" تسمية مغلوطة، لأنّ ما حدث يحمل في جانب كبير منه حربا عالمية ثالثة، لذلك كلّما قرأتُ عمّا يحدث في الاتحاد السوفياتي كلما ازداد إيماني إلى حدّ التقديس بالعراق الذي ضحّى بسخاء ونبل، ذلك أنّ الهدف الأساس لأمريكا لم تحققه، وهو القضاء على العراق جغرافيّا وإثارة كلّ المكبوتات المتمثّلة في تفجير خلاف الإثنيات فيه. صحيح أنّ القوّة هي المرجع الأساس في حسم الصراعات ولكن للمرونة قوّتها. من هنا كان لابد من سدّ الطريق أمام الأخطبوط الأمريكي. فتجربة ديمقراطية حقيقية في العراق والوطن العربي عموما ضرورية حتّى نغيّر منطق التعامل السياسي الكلاسيكي التقليدي الذي ساد إلى حدّ الآن في معظم الأقطار العربية، إذ هناك مفارقة كبيرة جدّا بين العقل السياسي الكلاسيكي التقليدي الذي ساد إلى حدّ الآن في معظم الأقطار العربية، وبين العقل السياسي الأمريكي أو حتى الإسرائيلي ذاته، ففيم تتمثل هذه المفارقة؟.
لنلاحظ جيّدا أنّ كلا من العقلين السياسيين يتعامل وفق منطق مزدوج: منطق التصلب والهشاشة. ففي العقل السياسي الغربي يتم التوجه بالهشاشة إلى الداخل لذلك تجد الشوارع عندهم في اللحظات الحاسمة تتصالح بمرونة مع المؤسسات السياسية إذ تعتبرها في نهاية التحليل مؤسسة وطنية. أمّا وإن تعلق الأمر بالخارج أي بالآخر فإنّ المنطق الغربي يتوسل التصلب والصَلابة. في حين يقلب العقل السياسي العربي هذه المعادلة، فيركن إلى العنف والشدخ والتعذيب والتسلّط إذا اتجه إلى الداخل، بينما يلتجئ إلى المرونة والهشاشة والميوعة إلى حدّ الذوبان المطلق إزاء الآخر أو القوى البرانية. وهذا ما يفسّر أحيانا كثيرة نزعة التشفي من الأمير لحظة سقوطه.
أمّا فيما يتعلق بالدروس التي يمكن استخلاصها من "أمّ المعارك" فهي متعدّدة، ولابد لنا من استيعاب الدروس استيعابا مطابقا وليس استيعابا مقلوبا، إذ من المفروض أنّ الحضارة العربية حينما نستعرض بعض متونها الثقافية تقدّم نفسها كحضارة الاعتبار: كتاب العبر (ابن خلدون)، كتاب الإفادة والاعتبار (عبد اللطيف البغدادي)، كتاب الاعتبار (لأمير أسامة بن منقذ).. 
وأقصد بالاستيعاب المقلوب كأن نعتبر الأمر قد حُمَّ وحُسِمَ وأنّه قضاء وقدر، فلا رادّ لما يحدث ولا غالب إلا الأمريكان: ذلك هو أهم جزء من درس أمّ المعارك. أمّا الشطر الثاني فيتمثّل في مواصلة "أم المعارك" التي يجب أن نسأل أوّلا كيف تأسّست؟
يبدو لي أنّ "أم المعارك" هي نتيجة تراكم إرث حضاري ومعرفي استوعب عِبَرَ التاريخ، يتمثّل أوّلا في المسك بأسباب القوّة المادية والقوة الرمزية وتلاحُم هذين الشكلين للقوة في منطق إيديولوجي وطني قومي لا يحتقر الذات ولا يتبرّأ من الصفات. وأقصد بالقوة المادية العلم والتكنولوجيا، وهو اتجاه لابد من فلاحته ليس في تربة العراق وحدها وإنّما على امتداد أفق الخارطة المعرفية للعرب. إذا لا يمكن مواصلة تعريب المصطلحات العلمية أو محاولة المسك بناصية العلم، وإنّما يجب "أخذ العلم من أرجله" وفْق عبارة رائعة للمفكر المغربي "محمد عابد الجابري". وعبارة "الأرجل" إنّما تشير تماما إلى ما حققه العراق، وإن بنسبة جزئية. في حين أنّ مَسْك العلم من ناصيته يعني أننا لا نزيد على أن نكون مجرد نقلة بشكل قردي/ببغائي/مسخي/مسوخي لما أنتجه الغرب.
وأقصد بالقوة الرمزية الوعي بضرورة الانتماء إلى الأمّة الذي من شأنه أن يغذي الروح الوطنية والتخلّص من سجن القطرية سياسيا، والأنانيّة سلوكيا، واحتقار الذات معرفيّا، وذلك لا يمكن إلا من خلال رؤية للعالم ووعي اللحظة الحضارية التي نعيش، فلم يعد ثمة مكان في العالم المعاصر "للهباءات "الإيديولوجية أو الذرات القطرية، وأعتبر أنّ مهمة المثقف الوطني حقا تكمن أساسا في فلاحة العقول والكفّ عن المساهمة في تبذير الذكاء لدى هذه الأجيال التي تراخى لديها الوعي بالوطنية وبالقومية.
يمكن القول دون مبالغة أنّ "أم المعارك" "لقْنَعَتْ" (لا قناع)/نزعت كلّ الأقنعة لدى الجميع، إذ لم يعد الاعتماد على غير الذات ممكنا، وهنا ألاحظ بكلّ وضوح أنّني بقدر ما تألّمت لما حدث في الاتحاد السوفياتي من تمزق وانهيار بقدر ما ابتهجتُ بكلّ صدق. لماذا؟ لقد سألتني: أهي رغبة في التشفّي من صديق خذلني: وإذا بالإجابة صريحة: إذ كنّا في لاوعينا نبحث لنا عن آخر يحمينا فالآن لا آخر سوانا.
يتحدّث أحد المفكرين الغربيين عن ما يسميه "تحديث الفقر". معنى ذلك أنّ الفقر هو ظاهرة تاريخية تماما كما الجوع، إذ أنّ مقاييس الفقر والجوع تختلف من فضاء اجتماعي وثقافي إلى آخر. فإذا كان الفقير أو المسكين في فترة تاريخية هو من لا يجد قوت يومه فهو في مرحلة أخرى وفضاء اجتماعي أخر من لا بيت له، وفي مرحلة ثالثة من لا سيارة له، وفي مرحلة رابعة من لا طائرة له، وفي مرحلة خامسة من لا جزيرة له.. إلخ.. فمتوالية الحاجات ليست ثابتة. من هنا لابد أن تنبين الاختلاف الرئيس بين الهدف من الحرب لدى العقل الغزووي الامبريالي ولدى العقل العربي.  فالأوّل يدافع عن حسن البقاء ورفاهة العيش ورهافته في حين أنّ الثاني يبحث عن مجرّد البقاء كأن يضع حدّا لوجع الجوع والفاقة والفقر. والمنطق السائد غزوويا إنّما هو تجويع اللاأمريكيين وتتخيم النهم الأمريكي. لذلك نتبين وجود منطقين اثنين: منطق الهجوم والاقتحام، ومنطق الاستماتة والدفاع عن الذات.
لقد كان الأمريكان ومشتقاتهم واضحين كإسرائيل، قُساة كالموت إذ ميزوا بين القيم الثقافية وبين المصلحة الوطنية لهم. ففي سبيل الدفاع عن مصالحهم تنكروا حتى لقيمهم التي كثيرا ما أسكروا بها سواهم من الشعوب، فمنطق الرغبة إذن انتصر لديهم في هذه الحرب على منطق القيم. لقد آن الأوان لأن ندرك أنّ التوغل الغزووي استفحل أو يكاد عند شعبنا العربي وذلك من خلال خلط نظام الأولويات على مستوى الحاجات. فحاجاتنا وأولوياتنا ليست حاجاتهم ولا أولوياتهم إذ همّنا الأساس هو القضاء على الأمية والفقر والتصحر الفكري والجغرافي، في حين أنّ همهم الأساس هو الاحتفال بالحياة على طريقتهم.. ولقد جعلوا من عديد الأقطار العربية حيوانات استهلاكية، وخاطبوا فيها كلّ أشكال النهم الجنسي والمعوي.. ذلك هو منطق التوغل الرمزي بخلق حاجات مزعومة لدى العربيّ المعاصر. لست أدري إن كنتَ تشاطرني الرأي في دلالة هذا القول المُحمدي: "احفظوا لي الأجوفين أضمن لكم الجنة". وفعلا إنّه الجحيم رغم الدلالة الميتافيزيقية للعبارة والمتمثل في توجّه العالم صوب التأمرك واكتشاف فضائل رعاة البقر، هذا هو المرادف الموضوعي للجحيم. لذلك يبدو لي أنّ أسلوب المقاطعة لأسلوب حياة الأمريكان المطالبين بإشاعتها هو الأنجع. لست أدري لماذا يستحضرني الآن قول ورد في متن الفارابي حينما سئل عن مقولة الهشاشة والتصلب فنسبها إلى مقولة الوضع، مؤكّدا على أنّ الصلابة تستوجب تكثّف العناصر وتوحدها وانصهارها، لذلك فهي سريعة الفعل بطيئة الانفعال، في حين أنّ الهشاشة مترهلة عناصرها سريعة الانفعال بطيئة الفعل. إنّ هذه المقولة، وإن اندرجت في سياق معرفي غير الذي عنه نتحدث، لهي أكثر صدقا إذا تعلّق الأمر بوضع هذه الأمة مشتتة العناصر، الأقرب إلى الميوعة منها إلى الصلابة، لذلك فهي سريعة الانفعال بطيئة الفعل.

- لأنّك منذ اليوم الثاني من آب 1990، اتخذت موقفا واضحا وحاسما إلى جانب العراق وعبّرت عنه بقوة فكرية وبلاغية، فأثرَتْ حفيظة من عرفك مثقفا ماركسيا، وحُوصرْتَ بنظرات استغراب تطوّرت إلى استهجان عبّروا عنه بتحويلك عندهم إلى هدف هجوم متواصل قاده هذه المرّة، من على المنابر الإعلامية الفرنسية المسموعة والمكتوبة، بعض اليساريين والفرنكفونيين، فوصفوك بالمتقلب من عقلاني إلى بدائي سلفي ومن ماركسي إلى "صدّامي".. كيف تفسّر هذا الشعار في مواجهة مواقفك من قِبَلِ أهل اليسار وأنت من سبق وأن حوكمت بسبب آرائك من قبل أهل اليمين؟


- إنّ موقفي كان واضحا منذ أوّل مقال كتبته (صدّام حسين أنتج فقه الفقراء ضدّ فقه الأمراء). وكان ما كتبته محلّ استغراب كثيرين من الجماعة بمن فيهم البعثيين الذين ثمّنوا ما كتبت دون إخفاء استغرابهم، وبعضهم قال لي حرفيا: كيف استطعت أن تصف صدّام حسين بالعظيم وأنت الماركسي الذي لا يؤمن بدور البطل الفرد في التاريخ؟
ولقد استغربتُ بدوري استغرابَهُ، وكأني به يشك في انتمائي من جهة، وفي البعد البطولي لهذا الرجل الذي من المفروض أن يكون أعلم به منّي لأنّه زار العراق أكثر من مرّة.. وربما يكون عبّر هكذا بتلقائية عفوية نتيجة مجموعة آراء مسبّقة يحملها عنّي، خاصة أن لا علاقة لي إلى يومنا هذا بجُمّاع الأماكن التي تعوّد أمّها.
إنّ دفاعي المتواضع جدّا عن العراق ينبع من قناعة أساسية هي ضرورة الانتماء إلى الذات. فأنا في الحقيقة أدافع عني، أدافع عن تاريخ هذه الأمة، عن المتنبي، عن انكيدو، عن البحتري، عن السيّاب.. باختصار أدافع عن مرجعية ثقافية ولم يقترن في ذهني للحظة غدر هويتي. إنّني مثقف ولست تقني معرفة، أنا من الجنوب التونسي، تشبّعت بالأدب العربي وأتقن الفرنسية، لكن آرثر رامبو لم ينتصر في ذاكرتي على أبي تمّام كما لم ينتصر فولتير على أبي العلاء المعري. فضلا عن هذا فأنا أحمل صورا سيئة عن أصحاب الكتب الصفراء والايديولوجيا الصفراء والمناطق الصفراء، تلك التي توظّف أهمّ مصدرين اثنين كانا من المفروض أن يكونا سلاحا للأمة لا سلاحا عليها، أقصد القرآن عنوان حداثة العرب الأولى، ذلك المقدّس يوظفه الوعي الأمريكي السلطاني لتركيع وتجويع العرب كما لو أنّهم عبيد. أليس في عبارة (آل) مخزون إلهيّ مقدّس؟ إذ اشتُّق منها (الإلّ) وهو الإله، فلما نقول آل فلان، كما لو أنّنا نعني أصحاب الربّ وسلالته. ألا تتضمّن عبارة استبدّ، أي جعل فلان من نفسه بدًّا أي ربا. ومن هنا عَنْوَنَ ابن السبعين المرسي كتابه (بدّ المعارف) أي إله العارف.
ما يعنيني أساسا إنّما هو توظيف المقدّس من قبل أمراء البترول من أجل المدنّس، وهو ما يبرر تسميتهم إسلام الأمريكان. فعلا إنّ هذا البعد الرأسمالي الرمزي المتمثّل في التراث الديني لم يمنع تقاة البيت الأبيض من توظيفه ضدّ العرب المسلمين ولغدرهم. لذا لا أحمل تجاه أصحاب الوعي البترولي البعولي سوى المزيد من الاحتقار، وهذا الرأي يلزمني. فلا يمكن أن يظلّ المقدّس حكرا عليهم فهو إرث مشاع، واحتكاره والتنازل لهم عن هذا الإرث يعني التنازل عن رأسمال رمزي مهمّ يمكن أن يكون حافزا على تثوير ما جمد وتكلّس في روح هذه الأمّة. وهذا ما يبرز كذلك معارضتي الواضحة للأصوليين ومنهم، هؤلاء الذين يعملون على غدر مشروع إعادة بعث وبناء هذه الأمة، إذ يكفّرون حتى من ينتمي إلى شعار الوطنية، كما لو أنّ الولاء للوطن خيانة لشعار الأمة الإسلامية. مع الملاحظ أنّني أفهم جيّدا أنّ الأوضاع البائسة والتفاوت بين من يملكون ومن لا يملكون عنصر أساس في تكوين مثل هذه الجماعات ولا أصفهم بالمتطرفين، ذلك أنّ الدولة القمعيّة في هذا القطر وذاك هي أكبر جهة متطرفة إذ تريد أن تجمع بين الماء والنار، بين الجائع والنائع وبين المريض بالتخمة.. كيف يمكن المصالحة بين الجلاد والمجلود؟. يضاف إلى ذلك أنّ هذه النحلة أو النحل جميعا غالبا ما تستعمل كأصابع لشلّ كل حركة نهوض حقيقية إذ ليس من مصالح الأمريكان أو غيرهم أن يتطوّر العقل العربي وغيره، لذلك يجدون الحركات الأصولية مَعينا لا ينضب في نظرهم للتفتين فيكثر الخلاف، وقديما قالت العرب: "بالخلاف ضاعت الخلافة"، مع ضرورة التمييز بين الخلاف والاختلاف وطنيّا، أمّا وإن تعلّق الأمر بمصلحة الوطن الكبرى فإنّه من الممكن إرجاء الخلاف، أمّا من أضاعوا الخلافة قديما فإنّهم يريدون تأسيسها من جديد بتمزيق روح الأمّة.
إنّ موقفي المناصر للعراق ليس موقفا انفعاليا، ذلك أنّني لازلت على هذا الرأي، وأكثر من ذلك سأدافع عنه، نعم لقد نُعتّ بالصدّامي، وهذا الوصف أو النعت نُحت من أجل تخجيلي وهو بالعكس يشرّفني ولا يخجلني. لقد أصدرت مؤخرا كتابي الثاني (الجراحات والمدارات) وحين تقرأ فصله الأخير تجد روح الفتوة العراقية حاضرة فيه وهي المحرّك له.. وليُصنِّف المصنّفون.
وإن كنتُ لستُ مطالبا بتبرير لموقفي فأقول للذين ينعتونني بالمتقلّب من العقلانية إلى البدائية ومن الماركسية إلى الصدّامية، إنّني أعرف الفرنسية والعربية وأنتم تعرفون الفرنسية وتجهلون العربية، وإنّني أعرف تاريخ الآداب العربية وتاريخ الماركسية وإنّكم تلاميذ الفرنكفونية والتحريفية بتلويناتها المختلفة.
إنّ صدام حسين بالنسبة لي، ولقد كنت واضحا منذ البداية، ليس شخصا وإنّما استحال إلى رمز، والآن أقول إنّني لا أدافع عن أيّة قيمة وإنّما أدافع عن صدّام حسين شخصيا، ألا يعني "فصل الرمز عن الواقع فعلا مُميتا"؟!.
لقد وصفت أمراء البترول "بالأنبياء الكذابين " وكنت جوادا معهم فأيّ قرآن كتبوا.. لو قارناهم بمسيلمة؟.
إنّ موقف "الفرنكفونيين " الدغمائيين " و"الأنكلوفونيين " لم يكن موجّها ضدّي فقط، لقد طال من هم أكثر مني معرفة وشهرة عالمية ونجاعة على مستوى التحرك، لقد طال تطاولهم المفكر العربي الدكتور هشام جعيّط إذ يعتبرونه متقلبا وكانوا ينتظرون منه مناصرة "الشرعية الدولية" واغتاظوا كثيرا لمّا هاجم الفرنسيين في عقر مجلاتهم.
إنّ مختلف الحملات الإعلامية لتشويه كل من وقف إلى جانب العراق لها هدف أساس ومرمى رئيس هو تملق الوعي الغربي، ويعتبروننا أقليّات هامشية- وقد استعملوا هذا النعت في وصفنا- وأنّه لا تأثير لنا في لاوعيهم كأنّي بهم يقولون مخاطبين أسيادهم في أمرنا: لا خوف منهم ولا أنتم تحزنون أيّها الغربيون فإنّنا لكم دائما من الأنصار والجنود الأوفياء. ولكن هل كان ريجيس دوبريه بدائيا وغير عقلاني؟
على كل حال، أنت تعلم أنّني لا أريد الانتماء إلى الدكاكين السياسية المتوفرة، ذلك أنّ السياسي اليومي يقتل لدى الباحث شرط التفكير الحرّ، لكن ذلك لا يعني الاستقالة بل يجب التوغل في التفكير العميق وإشاعة القيم التي بها نؤمن في كل الفسح التي نوجد نحن فيها من أجل صياغة أيديولوجيا واضحة ومتميزة تملك كلّ شروط النجاعة والانتشار والفاعلية والكف عن البحث واللهث كدحا طلبا لولاء "المريدين والمؤيدين والأنصار" وإنّما تكوين مفكرين مناضلين.

(لقد تم الحوار دفعة واحدة _ ولست نادما على حرف قلته _تونس 3 _ 12 _2012)





























Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث