mardi 25 décembre 2012





كتاب تهذيب الأخلاق






 





































الحكيم العراقي:
يحي بن عدي
(من القرن3هـ-9م/4هـ -10م)


أعدّه وفَهرسَه وقدّم له:
الكاتِبُ الحُرسليم دولة





Nirba_auto_edit
(2012)


 








الكتاب :  تهذيب الأخلاق
الكاتب : يحي بن عدي
أعدّه وفَهرسَه وقدّم له: سليم دولة
الطبعة الثالثة تونس 2012
….-…..
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الهاتف/الفاكس: 98649350(216)


البريد الإلكتروني:
selimdawla@hotmail.fr






"كتاب التهذيب"
للحكيم التكريتي العراقي
*يحي بن عدي*





























أخلاق تدبير اللذّات:
"السعادة الإنسانية والرئاسة الحقيقية"

















"شذرات من المتن"

-1-
"المجد لواهب العقل دائما".
-2-
"عيوب الملوك أبدا خفيّة عنهم".
-3-
"إنّ عظيم الهمّة تصغر في عينيه كل رذيلة وتحسن له كل فضيلة".
-4-
"إذا ضبط الإنسان نفسه الغضبيّة، وانقاد لنفسه العاقلة صار الناس كلهم له إخوانا وأحبابا. وإذا أعمل الإنسان فكره رأى أن ذلك واجب".
-5-
"فإن الإنسان مضروب بأنواع النقص
مستول عليه وعلى طبعه ضروب الشر".
-6-
إذا حاسب الإنسان نفسه وأجال فكره وتمييزه علم أن الضرر في مساوئ الأخلاق أكثر من النفع بها".
-7-
"فما أحسن الصبر إذا عدمت الحيلة، وما أقبح الجزع إذا لم يكن مفيدا".
-8-
"العشق من الأخلاق الرديئة وهو إفراط الحب والسّرف فيه. وهذا الخلق مكروه على جميع الأحوال إلاّ أن أقبحه وأشرّه ما كان مصروفا إلى طلب اللذّة واتّباع الشهوة الرديئة. وقد يحمل هذا الخلق صاحبه على الفجور وارتكاب الفواحش وكثرة التبذّل وقلة الحياء (...) وهو بكل أحد قبيح، إلاّ انه بالأحداث والمترفين والمتنعمين أقلّ قبحا".
-9-
"الغالب على طبيعة الإنسان الشرّ".


-10-
"من وثب على الناس وثبوا عليه، ومن أقدم عليهم أقدموا عليه (...) ومن تشرّر عليهم قصدوه بالشرّ".
-11-
"وقد يكتسب أكثر الناس العادات وجميع الأخلاق جميلها وقبيحها اكتسابا. وذلك يكون بحسب منشأ الإنسان وأخلاق من يحيط به ويشاهده ومن يقرب منه، وبحسب رؤساء وقته".
-12-
"ليس يصلح للملوك التخلّق بسلامة النيّة دائما ولا يتمّ الملك إلاّ باستعمال المكر والحيل والاغتيال مع الأعداء".






-1-
يمكن اعتبار المسألة الأخلاقية La question morale وشأن تدبير الأهواء والانفعالات والاقتصاديات الليبديّة من أكثر المسائل التي شغلت – ولا تزال- الذوات المفكّرة منذ أخذ "الحيوان العاقل" و "الرامز" يتدبّر أمر حياته. لذلك ربما أمكنني القول إن الفلسفات الكبرى جميعها، تماما كما الديانات المتعددة بمختلف تلويناتها وضروب طقوسها وتمثّلها للزمن... إنما هي محاولات tentatives وتمريناتexercices  لتصريف عنف الرغبات وشراستها.
إذا كان نيتشه قد اعتبر أن "الفلسفات المختلفة إنّما هي تأويلات مختلفة للجسد" بإمكاني القول بلا حذر إنّ كلّ ما يسمّى "برؤى العالم" Les visions du monde (الفنّ- الدين- الفلسفة- السياسة) إنّما هي بصيغ متباينة وأحيانا متقاطعة إجراءات وتدابير وفنون واحتياطات للتصريف "الحاذق" اللّذات والآلام لتعقّل أمر الأحلام والأوهام، وأنّها جميعها بكلمة واحدة تقنيات وفنون لسياسة الحياة والممات، فهي اقتصاديات "ليبديّة" بالمعنى الفرويدي للكلمة لا غير. مع العلم أنّ كلمة libido تعني في اللغة اللاتينية "أنا أرغب".
-2-
القضيّة بل المعضلة الأخلاقية تتسم براهنية واضحة تكاد تذهب بالبصر، في الزّمن الحضاري الذي نعيش. ذلك أنّ الشّأن الأخلاقي والأحكام الأخلاقية والتدخّل الأخلاقي  L’intervention morale  يجد مبرّر وجوده زمن الأزمات. الفلسفات تماما كما الديانات والإيديولوجيات الكبرى إنّما هي سليلة الانقطاعات والمنعطفات الحضارية Tournants et ruptures التي تعتري سير التداول البشري والتبادل البشري والتعاقد البشري في هذا المجال أو ذاك، كما يمكن أن تكون هذه الأزمات قطاعية أو جزئية عرضية أو بنيوية هيكلية. غير أنّ الفلسفة وخاصّة النسقيّة تعنى "بالشأن الكلّي" "للإنسان الكلي"... تسعى إلى تعقّل هذا الحدث أو تلك الواقعة من أفق نظري يريد أن يجعل "العقل" إنّما هو المسند والمرجع و"محك النظر" و"القسطاس المستقيم" الذي به نحكم على "نظام الأشياء" L’ordre des choses وانتظام الانفعالات والأهواء.
لقد أذركت الفلسفات الكبرى كما الدّيانات أن الإنسان أكثر الكائنات عرضة للعطب إن على مستوى الوعي أو الجسد، إن على مستوى الرغبة أو المقدرة Le désir et le pouvoir، ذلك أنّه كائن المفارقات والهشاشات بامتياز، كائن ترعبه الثقب والفراغات!.
-3-
إذا كان صاحب كتاب "استعمال اللذّات" وكتاب "الإنهمام بالذّات" وكتاب "المراقبة والمعاقبة"، ميشال فوكو، قد اعتبر بعد الفيلسوف الشاعر نيتشه، أن المهمّة الرئيسية للفلسفة إنّما تتمثل في "تشخيص الحاضر"، فإنّ مجرّد إلقاء نظرة نافذة على الأفق الحضاري الذي نعيش يتبيّن لنا أننا نعيش في "محيط عاصف" تمّ فيه التغلغل في استنطاق واقتحام اللاّمتناهي في الكبر كسمولوجيا (غزو الأجرام والكواكب والكويكبات) تماما كما تمّ اقتحام اللامتناهي في الضغر ذريّا، إذ أبدت الذرّات الاستسلام الكلّي "لإرادة المعرفة" للإنسان الفيزيائي المخبريّ التكنولوجي العلمي، كما اقتحم مهندس الوراثة الكتاب الصّبغي واستسلمت الشّفرات الوراثية لإرادة الاقتحام الطبية وفتحت القلاع الثقافية والحصون الحضارية أمام إرادة السيطرة السياسية المدجّجة بأخطر التكنولوجيات العسكرية والرقمية الحربية. فلم يعد المستغلق القديم الصّامد السحريّ والخرافي غير مستسلم جديد لإرادة المعرفة.
-4-
إنّ النجاحـات على مستوى العــلوم الدقيـقة     Les sciences exactes لم ترافقها انتصارات مطابقة على مستوى الإنسانيات والفلسفات، إذ بقي ثمّة شيء ما، متمرّد ما يربك "إرادة المعرفة" ويتمثّل هذا المتوحّش الذي عجزت الذوات العارفة عن ترويض شراسته إلى حدّ الآن، في المعنى Le sens . إنّه فعلا المعنى، معنى أن نعيش، معنى أن نحبّ، معنى أن نحارب، معنى "القشعريرة والألم"، معنى أفعالنا، نهاريّها وليليّها، هوية الغروبيّ فينا، والفجريّ لدينا، وباختصار التساؤل عن معنى المعنى، ذلك الذي يقترن تلازما بفقدان اليقين.
-5-
... ومن هنا يكون مدار فلسفة الأخلاق معضلة "الخير" و"الشر" Le bien et le mal ومن هنا نفهم راهنيّة الفلسفة عموما والتفلسف بما هو استعمال نقديّ للعقل بمعزل عن جميع سلط التعالي وفقا للميراث الكانطيّ.
وفلسفة الأخلاق والسياسة التي تستمدّ شرعيتها وصلاحيتها من الوضع المأزقي بالمعنى الإشكالي لكلمة المأزق. حتّى تلك الفلسفات التي تبدو لنا قديمة أو كلاسيكية أو لا راهنيّة، تبدو لنا راهنيّتها الأكيدة. وهو ما يبرّر الدعوة الملحّة لقراءة رسالة الحكيم التكريتي العراقي "يحي بن عدي" الآتية من القرن الثالث الهجري/ التاسع ميلادي، كمحاولة منه لتشخيص الأدواء (جمع داء) التي يمكن أن تحفّ وأن تعصف بالكائن الإنسيّ، مقدّما الأدوية الممكنة لدفع العداوات والأحزان من أجل تحقيق هدف عقليّ محدّد يتمثّل في ما يمكن لي تسميته: "تأسيس أخلاق تدبير اللّذات وحيازة السعادات" من أفق فكريّ استوعب رسائل ووصايا "الفلاسفة الأوّل" (أفلاطون- أرسطو- أبيقور... الحكماء والزهّاد) بعيدا عن التعصب والانغلاق في اتّجاه تحقيق المحلوم به فلسفيّا: نشر حكمة المحبة بين البشر.
فأيّ مطلب أكثر راهنية من هذا المطلب الفلسفيّ الذي يصوغه الحكيم التكريتي العراقي يحي بن عدي وفق البلاغ التالي وهو ما يمكن أن يكون حكمة تنقش على أبواب وبوّابات عواصم الكون المتقلّب:
"الناس قبيل واحد متناسبون تجمعهم الإنسانية وحلية القوّة الإلهية التي هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة. وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا (...) وهي جوهر واحد وبالأشخاص كثيرون، وإذا كانت نفوسهم واحدة والمودّة إنّما تكون بالنفس العاقلة فواجب أن يكونوا كلّهم متحابّين، متوادّين، وذلك في الناس طبيعة، لو لم تقدهم النفس الغضبيّة، فإنّ هذه النفس تحبّب لصاحبها التروّس (...) والتسلّط على المستضعف واستصغار الفقير... فإذا ضبط الإنسان نفسه الغضبيّة، وانقاد لنفسه العاقلة صار الناس كلّهم له إخوانا وأحبابا، وإذا أعمل الإنسان فكره رأى أن ذلك واجب..."
-6-
إنّها رسالة الحكيم التكريتي العراقي للدفاع – في زمن المحنة- عن شجرة أخلاق الفتوّة (الأخلاق الحسنة) ضد بذور بذرة شجرة البرابرة الجدد، أخلاق الرذيلة والتسفّه القاتلة:
أخلاق العفّة ضد الفجور،
والقناعة ضد الشّره،
والحلم ضدّ التشرّر،
والرحمة ضدّ القسوة،
والتسامح ضد التعصّب،
والوفاء ضد الغدر،
والصدق ضد الخيانة،
والعدل ضد الجور...
-7-
إننا مازلنا مع يحي بن عدي، الحكيم العراقي التكريتي، بعيدين جدا عن الزمن الذي أمكن لنيتشه الألماني أن نعلن فيه: "ما أطلبه من الفيلسوف (...) أن يتموضع ما وراء "الخير" و"الشر"، أن يكون فوق وهم الحكم الأخلاقي". هكذا ورد في كتاب: "أفول الأصنام".



-8-
...فأيّ عزاء، للحكيم التكريتي العراقي، أستاذ مسكويه، صاحب كتاب: "تجارب الأمم وتعاقب الهمم" وكتاب: "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق".
كتب في تونس في 13/03/2004.












***
هذا كتاب تهذيب الأخلاق، تأليف الحكيم الأجل الفاضل، أبي زكريا يحي بن عدي، قدّس الله روحه.
قال: أعلم أن الإنسان، من بين سائر الحيوان، ذو فكر وتمييز، وهو أبدا يحب من الأمور أفضلها ومن المراتب أشرفها، ومن المقتنيات أنفسها إذا لم يعدل عن التمييز في اختياره، ولم يغلبه هواه في اتباع أغراضه.
***
وأوّل ما اختاره الإنسان لنفسه، ولم يقف دون بلوغ الغاية منه، ولم يرض بالتقصير عن نهايته، تمامه وكماله. ومن تمام الإنسان وكماله أن يكون مرتاضا بمكارم الأخلاق ومحاسنها ومتنزّها عن مساوئها ومقابحها، آخذا في جميع أحواله بقوانين الفضائل، عادلا في كل أفعاله عن طرق الرذائل.
***
وإذا كان ذلك كذلك، كان واجبا على الإنسان أن يجعل قصده اكتساب كل شيمة سليمة من المعايب، ويصرف همته إلى اقتناء كل خلق كريم خالص من الشوائب، وأن يبذل جهده في اجتناب كل خصلة مكروهة رديئة، ويستفرغ وسعه في إطّراح كل خلة مذمومة دنيئة، حتّى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله، ويباهي بحق أهل السؤدد والفخر، ويلحق بالذرى من درجات النباهة والمجد.
***
إلاّ أن المبتدئ بطلب هذه المرتبة والراغب في بلوغ هذه المنزلة، ربما خفيت عليه الخلال المستحسنة التي يعنيه تحريها، ولم تتميّز له من المستقبحة التي غرضه توقّيها.
***
فمن أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولا، نبيّن فيه ما الخلق وما علّته، وكم أنواعه وأقسامه، وما المرضي منها، المغبوط صاحبه والمتخلّق به، وما المستثنى منها، الممقوت فاعله، والمتوسّم به، ليسترشد بذلك من كانت له همّة سنية، تسمو إلى مباراة أهل الفضل، ونفس أبيّة تنبو عن مساواة أهل الدناءة والنقص.
***
وندلّ أيضا على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه، والتدرّب به، وتنكبّ المذموم منها وتجنّبه، حتى يصير للمرتاض به ديدنا وعادة وسجيّة وطبعا، ليهتدي به من نشأ على الاخلاق السيئة وألفها، وجرى على العادات الرديئة وانس بها. ونصف أيضا الإنسان التام المهذب الأخلاق، المحيط بجميع المناقب الخلقيّة وطريقته التي يصل بها إلى التمام وتحفظ عليه الكمال، ليشتاق إلى صورته من تشوّق إلى الرتبة العليا، ويحنّ إلى احتذاء سيرته من استشرف الغاية القصوى.
***
وقد يتنبّه أيضا بما نذكره من كانت له عيوب قد اشتبهت عليه، وهو مع ذلك يظنّ أنه في غاية الكمال. فإن من هذه حاله، إذا تكرّر عليه ذكر الأخلاق المكروهة، تيقّظ لما فيه من ذلك وأنف منه، واجتهد في تركه والتنزّه عنه.
***
وكذلك إذا تصفّح الأخلاق المحمودة من كان جامعا لأكثرها، عادما لبعضها، قدم إلى التخلّق بذلك البعض الذي هو عادم له. وتاقت نفسه إلى الإحاطة بجميعها.
***
وقد ينتفع بما نذكره أيضا من كان في غاية الكمال والتمام. فإن المهذّب الأخلاق، الكامل الآلات، الجامع المحاسن، إذا مرّ بسمعه ذكر الخلائق الجميلة، والمناقب النفيسة، ورأى أن تلك هي عاداته وسجاياه، كانت له بذلك لذّة عجيبة، وفرحة مبهجة، كما أن الممدوح يسرّ إذا ذكر المادح محاسنه، ونشر فضائله. فإنّه إذا وجد أخلاقه مدوّنه في الكتب، موصوفة بالحسن كان ذلك داعيّا إلى الاستمرار على سيرته والإصرار على طريقته.







1-   القول في تعريف الأخلاق وأنواعها

























ولنبتدئ الآن بذكر الأخلاق، فنقول:
إنّ الخلق هو حال للنفس، به يفعل الإنسان أفعاله بلا رويّة ولا اختيار. والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعض الناس لا يكون إلاّ بالرياضة والاجتهاد. وقد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمّد، كالشجاعة والحلم والعفّة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة. وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك فمنهم من يصير إليه بالرياضة، ومنهم من يبقى على عادته، ويجري على سيرته. فأما الأخلاق المذمومة فإنّها موجودة في كثير من الناس كالبخل والجبن والتشرّر، فإن هذه العادات غالبة على أكثر الناس، مالكة لهم. بل قلّما يوجد في الناس من يخلو من خلق مكروه ويسلم من جميع العيوب، ولكنّهم يتفاضلون في ذلك. وكذلك في الأخلاق المحمودة، قد يختلف الناس ويتفاضلون إلاّ أن المجبولين على الأخلاق الجميلة قليلون جدا، والمبغضين لها كثيرون.

***
فأمّا المجبولون على الأخلاق السيئة، فأكثر الناس، لأنّ الغالب على طبيعة الإنسان الشر وذلك أن الإنسان إذا استرسل مع طبعه، ولم يستعمل الفكر ولا التمييز والحياء ولا التحفّظ كان الغالب عليه أخلاق البهائم. وذلك أن الإنسان، إنّما يتميّز عن البهائم بالفكر والتمييز فإذا لم يستعملها كان مشاركا للبهائم في عاداتها، والشهوات مستولية عليه والحياء غائب عنه، والغضب يستفزه، والسكينة غير حاضرة له، والحرص والاحتشاد ديدنه، والشّره لا يفارقه. فالناس مطبوعون على الأخلاق الرديئة منقادون للشهوات الدنيئة، ولذلك وقع الافتقار إلى الشرائع والسنن والسياسات المحمودة وعظم الانتفاع بالملوك الحسني السيرة ليردعوا الظالم عن ظلمه، ويمنعوا الغاضب عن غضبه ويعاقبوا الفاجر على فجوره ويقمعوا الجائر حتّى يعود إلى الاعتدال في جميع أموره.

***
فالأخلاق المكروهة في طباع الناس، إلاّ أن فيهم من يتظاهر بها، وينقاد إليها، وهم أشرار الناس. وفيهم من يتنبّه بجودة الفكر وقوّة التمييز، على قبحها، فيأنف منها ويتصنّع لاجتنابها، وذلك يكون عن طبع كريم ونفس شريفة. وفيهم من لا يتنبّه لذلك، إلاّ انه إذا نبّه عليه، أحسّ بقبحه، فربما حمل نفسه على تركه.
***
وفيهم من إذا تنبّه إلى ما فيه من النقائص أو نبّه عليها، ورام العدول عنها، تعذّر عليه ولم يطاوعه طبعه، ولو كان مؤثرا للعدول عنها، مجتهدا في ذلك. وهذه الطائفة تحتاج إلى أن ترشد إلى طريق التدرّب والتعمّل للعادت المحمودة، حتّى تصير إليها على التدريج.
***
ومن الناس من إذا تنبّه على الأخلاق الرديئة أو نبّه عليها، فلا يحنّ إلى تجنّبها، ولا تسمح نفسه إلى مفارقتها، بل يؤثر الإصرار عليها، مع علمه برداءتها وقبحها. وهذه الطائفة ليس إلى تهذيبها طريق إلا بالقهر والتخويف والعقوبة، إن لم يردعها الترهيب.
***
فأمّا الأخلاق المحمودة، فإنّها وإن كانت في بعض الناس غريزة، فليست في جميعهم. وأنّ الباقين قد يمكن أن يصيروا إليها بالتدرّب والرياضة، ويترقوا إليها بالاعتياد والإلف. ومع هذه الحال، فقد يكون في بعض الناس من لا يقبل طبعه العادات الحسنة، ولا الخلق الجميل وذلك يكون لرداءة جوهره وخبث عنصره وهذه الطائفة من جملة الأشرار الذين لا يرجى صلاحهم. وكثير من الناس من يقبل كثيرا من الأخلاق المحمودة، وينبو طبعه عن بعضها وليس يعدّ هذا شرّيرا، بل تكون رتبته في الخير بحسب محاسنه.








2-   القول في الأسباب
الموجبة لاختلاف الأخلاق
وسياسة اللّذات.






















فأمّا العلّة الموجبة لاختلاف الأخلاق فهي النفس. فللنفس ثلاث قوى، وهي تسمّى أيضا نفوسا، وهي النفس الشهوانية والنفس الغضبيّة والنفس الناطقة. وجميع الأخلاق تصدر عن هذه القوى. فمنها ما يختصّ بإحداهنّ، ومنها ما يشترك فيها قوتان، منها ما يشترك فيها القوى الثلاث. ومن هذه القوى ما يكون للإنسان وغيره من الحيوان، ومنها ما يختصّ به الإنسان فقط.
***
أمّا النفس الشهوانية، فهي للإنسان ولسائر الحيوان، وهي التي تكون بها جميع اللّذات والشهوات الجسمانية، كالمآكل والمشارب والمباضعة. وهذه النفس قوية جدا، وإذا لم يقهرها الإنسان ويؤدّبها ملكته، واستولت عليه. فإذا استولت عليه عسر تهذيبها، وصعب قمعها وتذليلها. فإذا تمكنت هذه النفس من الإنسان وملكته، وانقاد لها، كان بالبهائم أشبه منه بالناس، لأنّ أغراضه ومطلوباته وهمّته تصير أبدا مصروفة إلى الشهوات واللذات فقط. وهذه هي عادات البهائم.
***
ومن يكون بهذه الصفة، يقلّ حياؤه، ويكثر خرقه، ويستوحش من أهل الفضل، ويميل إلى الخلوات، وينقبض عن المجالس الحفلة، ويبغض أهل العلم، ويشنأ أهل الورع والنّسك، ويود أصحاب الفجور، ويسحب الفواحش، ويكثر من ذكرها، ويلذّ باستماعها، ويسرّ بمعاشرة السفهاء، ويغلب عليه الهزل وكثرة اللّهو. وقد يصير من هذه حاله إلى الفجور، وارتكاب الفواحش، والتعرض للمحظورات، وربما دعته محبّة اللذات إلى اكتساب الأموال من أقبح وجوهها، وربما حملته نفسه على الغضب والتلصّص والخيانة وأخذ ما ليس له به حق. فإن اللذّات لا تتم إلاّ بالأموال والأعراض. فمحب اللذات، إذا تعذرت عليه الأموال من وجوهها، جسّرته شهوته على اكتسابها من غير وجوهها.
***
ومن تنتهي به شهواته إلى هذا الحدّ، فهو أسوأ الناس حالا، وهو من الأشرار الذين يخاف خبثهم، ويستوحش منهم، ويستروح إلى البعد عنهم. ويصير واجبا على متولي السياسات تقويمهم وتأديبهم وإبعادهم ونفيهم، حتى لا يختلطوا بالناس. فإنّ في اختلاط من هذه صفته بالناس، مضرة لهم، وخاصّة لأحداثهم. فإن الحدث سريع الإنطباع، ونفسه مجبولة على الميل إلى الشهوات، فإذا شاهد غيره مرتكبا لها مستحسنا للانهماك فيها، مال هو أيضا إلى الاقتداء به وإلى مساعدة لذّته.
***
وأمّا من ملك نفسه الشهوانية وقهرها، كان ضابطا لنفسه عفيفا في شهواته، محتشما من الفواحش، متوقيا من المحظورات، محمود الطريقة في جميع ما يتعلق باللذات. فالعلة الموجبة لاختلاف عادات الناس في شهواتهم ولذّاتهم وعفّة بعضهم وفجور بعضهم، هي اختلاف أحوال النفس الشهوانية. فإنها إذا كانت مهذبة مودّبة، كان صاحبها عفيفا ضابطا لنفسه. وإذا كانت مهملة مسترسلة مالكة لصاحبها، كان صاحبها شرّيرا. وإذا كانت متوسطة الحال كانت رتبة صاحبها في العفّة كرتبتها في التأدّب.
***
فمن أجل ذلك وجب أن يؤدّب الإنسان نفسه الشهوانية ويهذّبها. حتى تصير منقادة له فيكون هو مالكها، فيستعملها في حاجاته التي لا غنى عنها، ويكفّها عما لا حاجة به إليه من الشهوات الرديئة واللذات الفاحشة.
***
فأمّا النفس الغضبيّة، فيشترك فيها الإنسان وسائر الحيوان، وهي التي يكون بها الغضب والجرأة ومحبة الغلبة. وهذه النفس أقوى من النفس الشهوانية وأضرّ بصاحبها، إذا ملكته وانقاد لها.
***
فإن الإنسان إذا انقاد للنفس الغضبية كثر غضبه، وظهر خرقه، واشتدّ حقده، وعدم حلمه ووقاره، وقويت جرأته، وتسرّع عند الغضب إلى الانتقام والإيقاع بمغضبه، والوثوب بخصومه، فأسرف في العقوبة، وزاد في التشفّي، فأكثر السبّ وأفحش فيه. فإذا استمرت هذه العادات بالإنسان، كان بالسباع أشبه منه بالناس. وربما حمل قوما على حمل السلاح وربما أقدموا على القتل والجرح، وربما وثبوا بالسلاح على إخوانهم وأوليائهم وعبيدهم وخدمهم، عند الغضب من اليسير من الأمور. وربما غضب من هذه حالته، ولم يقدر على الانتقام من خصمه، فيعود بالضرب والسبّ والألم على نفسه، فمنهم من يلطم وجهه، وينتف لحيته، ويعض يده، ويسبّ نفسه، ويذكر عرضه.
***
وأيضا، فإن من تملكه النفس الغضبية يكون محبّا للغلبة، متوثبا على من آذاه، مقدما على كل من ناوأه، طالبا للترؤس من غير وجهه. فإذا لم يتمكن من الرئاسة، توصل إليها بالحيل الخبيثة فاستعمل كل ما يمكنه من الشرّ. وهذه الأفعال تورّط صاحبها، وتوقعه في المهاوي والمهالك فإن من وثب على الناس وثبوا عليه، ومن خاصمهم خاصموه، ومن أقدم عليهم أقدموا عليه، ومن تشرّر عليهم قصدوه بالشرّ. وربما سفه الإنسان على خصمه وكان الخصم أسفه منه، فإن ناله بسوء قابله ذاك بأكثر منه. وقد يغلب على من هذه حالته الحسد والحقد والقحّة واللجاج والجور، وقد تحمل هؤلاء محبة الغلبة وطلب الرئاسة، على اكتساب الأموال من غير وجوهها وأخذها بالغضب والغلبة والظلم. وربما قتلوا على محبة الغلبة من يناوئهم، وقد يفعلون ذلك من غير رويّة، فيؤول الأمر بهم إلى البوار والاستئصال.
***
فأمّا من ساس نفسه الغضبية وأدّبها وقمعها، كان رجلا وقورا حليما عادلا محمود الطريقة. فالعلّة الموجبة لاختلاف عادات الناس في غضبهم وخرقهم وحلم بعضهم وسفاهة بعض هي اختلاف أحوال النفس الغضبية. فإذا كانت مذلّلة مقهورة، كان صاحبها حليما وقورا وإذا كانت مهملة مستولية على صاحبها، كان صاحبها غضوبا سفيها، ظلوما غشوما، وإذا كانت النفس متوسطة الحال كان صاحبها متوسط الحال، رتبته في الحلم كرتبة نفسه الغضبيّة في التأدب.
***
فمن أجل ذلك وجب أن يرّوض الإنسان نفسه الغضبية، حتى تنقاد له فيملكها ويستعملها في الظروف التي يجب استعمالها فيها. ولهذه النفس أيضا فضائل محمودة، كالأنفة من الأمور الدنيئة ومحبّة الرئاسة الحقيقية وطلب المراتب العالية. وهذه الأخلاق المحمودة هي من أفعال النفس الغضبية. فإذا ملك الإنسان هذه النفس بالتأديب والتهذيب واستعملها في الأمور الجميلة، وكفّها عن الأفعال المكروهة، كان حسن الحال محمود الطريقة.
***
فأمّا النفس الناطقة، فهي التي بها يتميز الإنسان من جميع الحيوان، وهي التي يكون الفكر والذكر والتمييز والفهم. وهي التي عظم بها شرف الإنسان، وعظمت همته، فاعجب بنفسه. وهي التي بها يستحسن المحاسن ويستقبح المقابح. وبها يمكن الإنسان أن يهذب قوّتيه الباقيتين، وهما الشهوانية والغضبية ويضبطهما ويكفهما، وبها يفكّر في عواقب الأمور، فيبادر باستدراكها من أوائلها. ولهذه النفس أيضا فضائل ورذائل.
***
أمّا فضائلها:
فاكتساب العلوم والآداب وكفّ صاحبها عن الرذائل والفواحش وقهر النفسين الأخريين وتأديبهما وسياسة صاحبها في معاشه ومكسبه ومروءته وتجمله وحثّ صاحبها على فعل الخير والتودد والرقة وسلامة النية والحلم والحياء والنّسك والعفّة وطلب الرئاسة من الوجوه الجميلة.
***
وأمّا رذائلها:
فالخبث والحيلة والخديعة والملق والمكر والحسد والتشرّر والرياء. وهذه النفس هي لجميع الناس إلاّ أن منهم من تغلب عليه فضائلها، فيستحسنها ويستعملها ومنهم من تغلب عليه رذائلها، فيألفها ويستمر عليها، ومنهم من تجتمع فيه الفضائل وبعض الرذائل. وهذه العادات قد تكون في كثير من الناس سجيّة وطبعا لا بتكلّف.
فأمّا المطبوع على العادات الجميلة منها فيكون لقوة نفسه الناطقة وشرف عنصره. وأما المطبوع على العادات المكروهة، فلضعف نفسه الناطقة وسوء جوهره. وأما الذي تجمع فيه فضائل ورذائل،  فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال.
***
وقد يكتسب أكثر الناس هذه العادات وجميع الأخلاق، جميلها وقبيحها اكتسابا وذلك يكون بحسب منشأ الإنسان وأخلاق من يحيط به ويشاهده ويقرب منه، وبحسب رؤساء وقته. فإن الحدث والناشئ يكتسب الأخلاق ممن يكثر ملابسته ومخالطته ومن أبويه وأهله وعشيرته.
***
فإذا كان هؤلاء سيئي الأخلاق، مذمومي الطريقة، كان الحدث والناشئ بينهم أيضا سيئ الأخلاق، مكروه العادات.وإذا لحظ الحدث أيضا أهل الرئاسة ومن فوقه، وغبطهم على مراتبهم، آثر التشبه بهم والتخلّق بأخلاقهم. فإن كانوا مهذبي الأخلاق، جسني السيرة، كان المتشبّه بهم حسن الأخلاق، مرضي الطريقة. فإن كانوا أشرارا جهّالا، كان الغابط لهم السالك طريقهم شريرا جاهلا. وهذه الحال هي أخلاق أكثر الناس، فإن الجهل والشرّ والخبث والشره والحسد غالب عليهم.
***
والناس بالطبع يقتدي بعضهم ببعض ويحتذي التابع أبدا سيرة المتبوع، وإذا كان الغالب عليهم الشرّ والجهل، كان واجبا أن يقتدي أحداثهم وأولادهم وأتباعهم بهم.
***
فالعلّة الموجبة لاختلاف أخلاق الناس في سياساتهم وفضائلهم، وغلبة الخير على الشرّ عليهم، هي اختلاف قوة النفس الناطقة فيهم. إذا كانت خيّرة فاضلة قاهرة للنفسين الباقيتين، كان صاحبها خيّرا عادلا، حسن السيرة، وإذا كانت شريرة خبيثة مهملة للنفسين الأخريين، كان صاحبها شرّيرا خبيثا جاهلا.
***
فمن أجل ذلك وجب أن يعمل الإنسان فكره، ويميّز أخلاقه، ويختار منها ما كان مستحسنا جميلا، وينفي منها ما كان مستنكرا قبيحا، ويحمل نفسه على التشبّه بالأخيار ويتجنب كل التجنب عادات الأشرار. فإنه إذا فعل ذلك، صار بالإنسانية متحققا ولرئاسة الذاتية مستحقا.
***
فأمّا أنواع الأخلاق وأقسامها وما المستحسن منها، وما المستحبّ اعتياده ويعدّ فضائل، وما المستقبح منها، المكروه ويعدّ نقائص ومعايب فهي الأنواع التي نحن واصفوها.

























3-  القول في تعريف
الأخلاق الحسنة

























أما التي تعدّ فضائل، فإن منها العفّة، وهي ضبط النفس عن الشهوات، وقسرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحته فقط واجتناب السّرف والتقصير في جميع اللذات وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشهوات على الوجه المستحب، المتفق على ارتضائه، وفي أوقات الحاجة التي لا غنى عنها، وعلى القدر الذي لا يحتاج إلى أكثر منه ولا يحرس النفس والقوة أقل منه. وهذه الحال هي غاية العفّة.
***
ومنها القناعة، وهي الاقتصار على ما سنح من العيش، والرضى بما تسهّل من المعاش وترك الحرص على اكتساب الأموال وطلب المراتب العالية، مع الرغبة في جميع ذلك وإيثاره والميل إليه، وقهر النفس على ذلك والتقنّع باليسير منه.
وهذا الخلق مستحسن من أوساط الناس وأصاغرهم، فأما الملوك والعظماء فليس ذلك مستحسنا منهم، ولا تعدّ القناعة من فضائلهم.
***
ومنها التصوّن، وهو التحفظ من التبذّل. فمن التصوّن التحفظ من الهزل القبيح ومخالطة أهله وحضور مجالسه وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والمزح والسخف وخاصة في المحافل ومجالس المحتشمين. ولا أبّهة لمن يسرف في المزح ويفحش فيه.
ومن التصوّن أيضا، الانقباض من أدنياء الناس وأصاغرهم ومصادقتهم ومجالستهم والتحذر من المعايش الزّرية، واكتساب الأموال من الوجوه الخسيسة والترفع عن مسألة الحاجات للئام الناس وسفلتهم والتواضع لمن لا قدر له والإقلال من البروز من غير حاجة والتبذل بالجلوس في الأسواق وقوارع الطرق من غير اضطرار، فإن الإكثار من ذلك لا يخلو من العيوب وأعظم الناس قدرا من ظهر اسمه وخفي شخصه.
***
ومنها الحلم، وهو ترك الانتقام عند شدّة الغضب مع القدرة على ذلك. وهذه الحال محمودة، ما لم تؤدّ إلى ثلم جاه، أو فساد سياسة. وهي بالرؤساء والملوك أحسن، لأنهم أقدر على الانتقام من مغضبيهم. ولا يعدّ فضيلة حلم الصغير عن الكبير، وإن كان قادرا على مقابلته في الحال، فإنه وإن أمسك عنه، فإنّما يعدّ ذلك خوفا لا حلما.
***
ومنها الوقار، وهو الإمساك عن فضول الكلام والعتب وكثرة الإشارة والحركة، فيما يستغنى عن التحرّك فيه وقلّة الغضب والإصغاء عند الاستفهام والتوقّف عن الجواب والتحفّظ من التسرّع والمبادرة في جميع الأمور.
***
ومن قبيل الوقار أيضا الحياء، وهو غضّ الطرف والانقباض عن الكلام، حشمة للمستحيا منه، وهذه العادة محمودة ما لم تكن عن عيّ ولا عجز.
***
ومنها الودّ، وهو المحبّة المعتدلة، من غير اتباع الشهوة. والودّ مستحسن من الإنسان، إذا كان ودّه لأهل الفضل والنبل وذوي الوقار والأبّهة والمتميّزين من الناس.  فأما التودّد إلى أرذال الناس وأصاغرهم والأحداث والنسوان وأهل الخلاعة، فمكروه جدا.
***
وأحسن الودّ ما نسجته بين متوادّين مناسبة الفضل، وهو أوثق الودّ وأثبته. فأما ما كان ابتداؤه اجتماعا على هزل، أو لطلب اللذّة، فليس محمودا وليس بباق ولا ثابت.
***
ومنها الرّحمة، وهو خلق مركّب من الودّ والجزع. الرّحمة لا تكون إلا لمن يظهر منه لراحمه خلّة مكروهة، إما نقيصة في نفسه وإما محنة عارضة، فالرحمة هي محبّة للمرحوم، مع جزع من الحال التي من أجلها رحم. وهذه الحال مستحسنة ما لم تخرج بصاحبها عن العدل، ولم تنته به إلى الجور، وإلى فساد السياسة. فليس بمحمود رحمة القاتل عند القود والجاني عند القصاص.
***
ومنها الوفاء، وهو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، وعدم الخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفا به. فليس يعدّ وفيّا من لم تلحقه بوفائه أذيّة وإن قلّت وكلّما أضرّ به الدخول تحت ما يحكم به على نفسه كان أبلغ في الوفاء.
وهذا الخلق محمود ينتفع به جميع الناس. فإنّ من عرف بالوفاء كان مقبول القول في جميع ما يعد به. ومن كان مقبول القول، كان عظيم الجاه. إلا أن انتفاع الملوك بهذا الخلق أكثر وحاجتهم إليه أشد، فإنه متى عرف منهم قلّة الوفاء، لم يوثق بمواعيدهم، ولم تتم أغراضهم، ولم يسكن إليهم جندهم وأعوانهم.
***
ومنها أداء الأمانة، وهو التعفّف عمّا يتصرّف الإنسان فيه من مال وغيره، وما يوثق به عليه من الأعراض والحرم مع القدرة عليه وردّ ما يستودع إلى مودعه.
***
ومنها كتمان السرّ، وهذا الخلق مركّب من الوقار وأداء الأمانة. فإن إخراج السرّ من فضول الكلام، وليس بوقور من تكلّم بالفضول.
***
وأيضا فكما أنه من استودع مالا فأخرجه إلى غير مودعه، فقد خفر الأمانة، كذلك من استودع سرّا فأخرجه إلى غير صاحبه، فقد خفر الأمانة. وكتمان السرّ محمود من جميع الناس وخاصّة ممن يصحب السلطان، فإن إخراجه أسراره مع أنّه قبيح في نفسه، يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه.
***
ومنها التواضع، وهو ترك الترؤّس وإظهار الخمول وكراهية التعظيم والزيادة في الإكرام. وان يتجنب الإنسان المباهاة بما فيه الفضائل والمفاخرة بالجاه والمال، وأن يتحرّز من الإعجاب والكبر. وليس يكون التواضع إلا في أكابر الناس ورؤسائهم وأهل الفضل والعلم. وأمّا سوى هؤلاء فليس يكونون متواضعين، لأنّ الضّعة هي محلّهم ومرتبتهم، فهم غير متصنّعين لها.
***
ومنها البشر، وهو إظهار السرور بمن يلقاه الإنسان من إخوانه وأودائه وأصحابه وأوليائه ومعارفه، والتبسّم عند اللّقاء. وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس، وهو من الملوك والعظماء أحسن. فإن البشر في الملوك تتآلف به قلوب الرّعية والأعوان والحاشية، ويزداد به تحبّبا إليهم، وليس سعيدا من الملوك من كان مبغضا إلى رعيته، وربما أدّى ذلك إلى فساد أمره وزوال ملكه.
***
ومنها صدق اللهجة، وهو الإخبار عن الشيء على ما هو به. وهذا الخلق مستحسن، ما لم يؤد إلى ضرر مجحف، فإنه ليس بممتحسن صدق الإنسان إن سئل عن فاحشة كان ارتكبها. فإنه لا يفي حسن صدقه بما يلحقه في ذلك من العار، والمنقصة الباقية اللازمة.
***
وكذلك ليس يحسن صدقه، إذا سئل عن مستجير استجاره فأخفاه، ولا إن سئل عن جناية، متى صدق فيها عوقب عليها عقوبة مؤلمة. والصدق مستحسن من جميع الناس وهو من الملوك والعظماء أحسن، بل لا يسعهم الكذب، ما لم يعد الصدق عليهم بضرر.


***
ومنها سلامة النية، وهو اعتقاد الخير بجميع الناس، وتنكّب الخبث والغيلة والمكر والخديعة. وهذا الخلق محمود من جميع الناس، إلا أنه ليس يصلح للملوك التخلق به دائما، ولا يتم الملك إلا باستعمال المكر والحيل والاغتيال مع الأعداء، ولكن يحسن بهم استعماله مع أوليائهم وأصفيائهم وأهل طاعتهم.
***
ومنها السّخاء، وهو بذل المال من غير مسألة ولا استحقاق. وهذا الخلق مستحسن، ما لم ينته إلى السّرف والتبذير، فإن من بذل جميع ما يملكه لمن لا يستحقه لا يسمّى سخيا، بل يسمّى مبذرا مضيّعا.
والسّخاء في سائر الناس فضيلة مستحسنة وأما في الملوك فأمر واجب، لأن البخل يؤدي إلى الضرر العظيم في ملكهم والسخاء والبذل يرتهن به قلوب الرعية والجند والأعوان، فيعظم الانتفاع به.
***
ومنها الشجاعة، وهي الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت.
وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس، وهو بالملوك وأعوانهم أليق وأحسن، بل ليس بمستحق للملك من عدم هذه الخلة. وأكثر الناس أخطارا، وأحوجهم إلى اقتحام الغمرات، هم الملوك. فالشجاعة من أخلاقهم الخاصّة بهم.
***
ومنها المنافسة، وهى منازعة النفس إلى التشبّه بالغير فيما يراه له، ويرغب فيه لنفسه والاجتهاد في التّرقي إلى درجة أعلى من درجته.
وهذا الخلق محمود، إذا كانت المنافسة فى الفضائل والمراتب العالية وما يكسب مجدا وسؤددا. فأمّا في غير ذلك من اتّباع الشهوات والمباهاة باللّذات، والزينة والنّزه[1]، فمكروه جدا.
***
ومنها الصبر عند الشدائد، وهذا الخلق مركّب من الوقار والشجاعة، ومستحسن جدا ما لم يكن الجزع نافعا والحزن والقلق مجديا ولا الحيلة والاجتهاد دافعة ضرر تلك الشدائد. فما أحسن الصبر إذا عدمت الحيلة، وما أقبح الجزع إذا لم يكن مفيدا.
***
ومنها عظم الهمّة، وهو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السّامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور وطلب الغايات، والتّهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنان ولا اعتداد به.
وهذا الخلق من أخلاق الملوك خاصّة، وقد يحسن بالرؤساء والعظماء، ومن تسمو نفسه إلى مراتبهم. ومن عظم الهمّة الأنفة، والحمية والغيرة. فالأنفة هي نبوّ النفس عن الأمور الدنيئة، والحمية والغيرة جميعا هما الغضب عند الإحساس بالنقص.
وإنمّا تلحق الإنسان الغيرة على الحرم، لأنّ في التعرّض لهن عارا ومنقصة، فإن المتعرض للحرم مهتضم لصاحبهن ومتصرف في غير حق له، والاهتضام نقيصة. ومن عظم الهمّة الأنفة من الاهتضام ودخول النقص، وهذا الخلق مستحسن من جميع الناس.
***
ومنها العدل، وهو التقسّط اللاّزم للاستواء واستعمال الأمور في مواضعها وأوقاتها ووجوهها ومقاديرها، من غير سرف ولا تقصير ولا تقديم ولا تأخير.








4-   القول في الأخلاق الرديئة وأنواعها






















فأمّا الأخلاق الرديئة التي تعدّ نقائص ومعايب فإن منها: الفجور، وهو الانهماك في الشهوات والاستكثار منها، والتوفر على اللذات والإدمان عليها وارتكاب الفواحش والمجاهرة بها، وبالجملة السّرف في جميع الشهوات. وهذا الخلق مكروه جدا، يهدم الحياء ويذهب بماء الوجه، ويخرق حجاب الحشمة.
***
ومنها الشره وهو الحرص على اكتساب الأموال وجمعها وطلبها من كل وجه، وإن قبح التعسّف في اكتسابها والمكالبة عليها والاستكثار من القنية وادّخار الأعراض. وهذا الخلق مكروه من جميع الناس إلا من الملوك، فإن كثرة الأموال والذخائر والأعراض تعين على الملك وتزين الملوك وتزيدهم هيبة في نفوس رعيتهم وأعوانهم وأعدائهم وأضدادهم.
***
ومنها التبذّل وهو إطّراح الحشمة وترك التحفظ والإكثار من الهزل واللهو ومخالطة السفهاء وحضور مجالس السّخف والهزل والفواحش والتفوه بالخنا وذكر الأعراض والمزح والجلوس في الأسواق وعلى قوارع الطرق والتكسّب بالمعايش الزّريّة والتواضع للسفلة. وهذا الخلق قبيح بجميع الناس.
***
ومنها السّفه وهو ضد الحلم، وهو سرعة الغضب والطيش من يسير الأمور والمبادرة في البطش والإيقاع بالمؤذي والسّرف في العقوبة وإظهار الجزع من أدنى ضرر والسّبّ الفاحش. وهذا الخلق مستقبح من كل أحد، إلا أنه بالملوك والرؤساء أقبح منه.
***
ومنها الخرق، وهو كثرة الكلام والتحرّك من غير حاجة وشدّة الضحك والمبادرة إلى الأمور من غير توقف وسرعة الجواب. وهذا الخلق مستقبح من كل أحد، وهو بأهل العلم وذوي النباهة أقبح.
ومن قبيل الخرق القحّة وهي قلّة الاحتشام لمن يجب احتشامه، والمجاهرة بالجوابات الفظّة المستشنعة. وهذا الخلق مكروه وخاصة بذوي الوقار.
***
ومنها العشق وهو إفراط الحب، والسّرف فيه. وهذا الخلق مكروه على جميع الأحوال، إلا أن أقبحه وأشرّه ما كان مصروفا إلى طلب اللذة، واتباع الشهوة الرديئة. وقد يحمل هذا الخلق صاحبه على الفجور، وارتكاب الفواحش وكثرة التّبذل وقلة الحياء، ويكسبه عادات رديئة. وهو بكل أحد قبيح، إلا أنه بالأحداث والمتر فّهين والمتنعمين أقل قبحا.
***
ومنها القساوة وهو خلق مركب من البغض والشجاعة والقساوة، وهو التّهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى. وهذا الخلق مكروه من كل أحد، إلا من الجند، وأصحاب السلاح والمتولّين الحروب، فإن ذلك غير مكروه منهم إذا كان في موضعه.
***
ومنها الغدر وهو الرّجوع عمّا يبذله الإنسان من نفسه ويضمن الوفاء به. وهذا الخلق مستقبح، وإن كان لصاحبه فيه مصلحة ومنفعة. وهو بالملوك والرؤساء أقبح، ولهم أضرّ، فإن من عرف من الملوك بالغدر، لم يسكن إليه أحد، ولم يثق به إنسان، وإذا لم يسكن إليه فسد نظام ملكه.
***
ومنها الخيانة، وهو الاستبداد بما يؤتمن الإنسان عليه من الأموال والأعراض والحرم وتملك ما يستودع ومجاحدة مودعه. ومن الخيانة أيضا طيّ الأخبار، إذا ندب لتأديتها وتحريف الرسائل، إذا حملها، وصرفها عن وجوهها. وهذا الخلق، أعني الخيانة، مكروه من جميع الناس، يثلم الجاه ويقطع وجوه المعايش.
***
ومنها إفشاء السرّ، وهذا الخلق مركب من الخرق والخيانة. فإنه ليس بوقور من لم يضبط لسانه، ولم يتّسع صدره لحفظ ما يستسرّ به. والسّر إحدى الودائع، وإفشاؤه نقيصة على صاحبه، فالمفشي للسّر خائن. وهذا الخلق قبيح جدا، وخاصّة بمن يصحب السلاطين ويداخلهم.
***
ومن قبيل إفشاء السّر أيضا النميمة، وهو أن يبلّغ إنسان إنسانا آخر قولا مكروها. وهذا الخلق قبيح جدا وإن لم يستسرّ أيضا بما يسمعه أو يبلّغه. فنقله إلى من يكرهه قبيح، لأن في ذلك إيقاع وحشة بين المبلّغ والمبلّغ عنه، وذلك غاية التشرّر.
***
ومنها الكبر، وهو استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التّواضع له. وهذا الخلق مكروه، ضارّ لصاحبه، لأن من أعجبته نفسه لم يستزد من اكتساب الأدب، ومن لم يستزد بقي على نقصه. فإن الإنسان ليس يخلو من النقص، وقلما ينتهي إلى غاية الكمال.
وأيضا فإن هذا الفعل يبغّضه إلى الناس، ومن يبغضه الناس ساءت حاله.
***
ومنها العبوس، وهو التّقطيب عند اللّقاء وقلّة التبسّم وإظهار الكراهية. وهذا الخلق مركّب من الكبر وغلظ الطبع. فإن قلّة البشاشة هي استهانة بالناس، والاستهانة بالناس تكون من الإعجاب والكبر. وقلة التبسم، وخاصّة عند لقاء الإخوان تكون من غلظ الطبع. وهذا الخلق مستقبح وخاصة بالرؤساء والأفاضل.
***
ومنها الكذب، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ماهو به.وهذا الخلق مكروه، ما لم يكن لدفع مضرّة لا يمكن أن تدفع إلا به، أو إجتناء نفع لا غنى عنه، ولا يوصل إليه إلا به. فإن الكذب عند ذلك ليس بمستقبح، وإنما يستقبح الكذب إذا كان عبثا ولنفع يسير، لا خطر له ولا يفي بقباحة الكذب. والكذب يقبح بالملوك والرؤساء أكثره لأن اليسير من النقص يشينهم.
***
ومنها الخبث، وهو إضمار الشرّ للغير وإظهار الخير له، واستعمال الغيلة والمكر والخديعة في المعاملات. وهذا الخلق مكروه جدّا من جميع الناس، إلا من الملوك والرؤساء فإنهم إليه مضطرون واستعمالهم إيّاه مع أضداد هم وأعدائهم غير مستقبح، فأما مع أوليائهم وأصحابهم فإنه غير مستحسن.
***
‏ومن قبيل الخبث الحقد، وهو إضمار الشرّ للجاني، إذا لم يتمكن من الانتقام منه، فأخفى تلك الأحقاد إلى وقت إمكان الفرصة. وهذا الخلق من أخلاق الأشرار، وهو مذموم جدا.
***
‏ومنها البخل، وهو منع المسترفد، مع القدرة على رفده. وهذا الخلق مكروه من جميع الناس إلا أنه من النساء أقل كراهية، بل قد يستحب من النساء البخل فأمّا سائر الناس، فإن البخل يشينهم، وخاصّة الملوك والعظماء، فإن البخل يبغض منهم أكثر ممّا يبغض من الرعية، ويقدح في ملكهم، لأنه يقطع الأطماع منهم ويبغضهم إلى رعيتهم.
‏***
ومنها الجبن، وهو الجزع عند المخاوف والإحجام عمّا تحذر عاقبته، ولا تؤمن مغبته. وهذا الخلق مكروه من جميع الناس، إلا انه للملوك والجند وأصحاب الحروب أضرّ.
***
ومنها الحسد، وهو التألّم بما يراه الإنسان لغيره من الخير، ومن يجده فيه من الفضائل والاجتهاد في إعدام ذلك الغير ما هو له. وهذا الخلق مكروه وقبيح بكل أحد.
***
‏ومنها الجزع عند الشدّة، وهذا الخلق مركّب من الخرق والجبن، وهو مستقبح إذا لم يكن مجديا ولا مفيدا. فأمّا إظهار الجزع لتحمّل حيلة بذلك، عند الوقوع في الشدّة، أو لاستغاثة مغيث، أو اجتلاب معين فيما تغني فيه المعاونة فغير مكروه ولا يعدّ نقيصة.
***
‏ومنها صغر الهمّة، وهو ضعف النفس عن طلب المراتب العالية وقصور الأمل عن بلوغ الغايات واستكثار اليسير من الفضائل واستعظام القليل من العطايا والاعتداد به. والرّضى بأوساط الأمور وأصاغرها. وهذا الخلق قبيح بكل أحد، وهو بالملوك أقبح، بل ليس بمستحق الملك من صغرت همّته.
***
ومنها الجور، وهو الخروج عن الاعتدال في جميع الأمور والسّرف والتقصير وأخذ الأموال من غير وجهها والمطالبة بما لا يجب من الحقوق الواجبة وفعل الأشياء في غير مواضعها ولا أوقاتها ولا على القدر الذي يجب ولا على الوجه الذي يستحب.
























5-  القول في الأخلاق
التي تكون في بعض الناس فضيلة وفي بعضهم
رذيلة



















ومن الأخلاق ما هو في بعض الناس فضيلة وفي بعضهم رذيلة، فمنها:
***
حبّ الكرامة، وهو أن يسرّ الإنسان بالتعظيم والتبجيل، والمقابلة بالمدح، والثناء الجميل.
وهذا الخلق محمود في الأحداث والصبيان، لأنّ محبّة الكرامة تحثّهم على الرغبة في اكتساب الفضائل. وذلك أن الحدث والصّبي، إذا مدح فضيلة ترى فيه، كان ذلك داعيا له إلى الازدياد من الفضائل.
***
فأمّا الأفاضل من الناس، فإن ذلك يعدّ منهم نقيصة، لأن الإنسان، إنما يمدح على الفضيلة إذا كانت مستغربة منه. وإذا كان من أهل الفضل فليس ينبغي أن يسرّ بأن يستغرب ما يظهر منه من الفضائل.
وكذلك الإكرام والتبجيل، إن كان زائدا على استحقاقه، فإنه يجري مجرى الملق والسرور بالملق غير محمود، لأنه من جنس الخديعة.
***
ومنها حب الزينة، وهو التصنّع بحسن البزة والركوب والآلات، وكثرة الخدم والحشم. وهذا مستحسن من الملوك والعظماء والأحداث والظرفاء والمتنعمين والنساء. فأمّا الرّهبان والزّهاد، والشيوخ، وأهل العلم، وخاصة الخطباء والواعظون ورؤساء الدين، فإن الزينة والتصنّع مستقبح منهم. والمستحسن منهم لبس الشعر الخشن، والمشي والحفاء، ولزوم الكناس وغيرها، وكراهية التنعّم.
***
ومنها المجازاة على المدح، وهو مجازاة من يمدح الإنسان، ويشكره في المجالس والمحافل. وهذا الخلق مستحسن من الملوك والرؤساء، لأن ذلك يدعو الذي يمدح الإنسان إلى مدحه، ويكسب الممدوح ذكرا جميلا، يبقى على الدهر.
***
ومن فضائل الملوك والرؤساء بقاء ذكرهم الجميل. فأما محبتهم سماع المدح من المادح مواجهة، فذلك غير مستحبّ، لأنه من جنس الملق، وحب الملق مكروه، لأنه من قبيل الخديعة. فأما إيثارهم انتشار ذكرهم، ومدحهم وتداول الناس له، وبقاؤه بعدهم، فإن ذلك محمود منهم.
***
فمجازاة المادح مستحسنة من الملوك ومنعها مستقبح وضار، لأن ذلك يدعو إلى ذمّهم، وذمّهم يبقى أيضا على الدهر، فينشر لهم ذكرا قبيحا، وذلك مكروه للملوك والرؤساء. فأما أصاغر الناس، فمحبتهم جزاء المادح لهم غير مستحسن، لأن المادح إذا مدح الدنيء من الناس، فإنما يخدعه، فإذا أجازه اعتقد أنه استفز منه تلك الجائزة. وكثير من الناس، إذا مدحوا بما ليس فيهم يبادرون إلى مجازاة المادح فيكونون قد وضعوا الشيء في غير موضعه. وهم إذا صرفوا ذلك الشيء إلى الضعفاء، وأهل المسكنة، كان أجمل بهم وأليق.
***
ومنها الزهد، وهو قلّة الرغبة في الأموال والأعراض، والادخار والقنية، وإيثار القناعة بما يقيم الرمق، والاستخفاف بالدنيا ومحاسنها ولذّاتها، وقلّة الاكتراث بالمراتب العالية واستصغار الملوك وممالكهم وأرباب الأموال وأموالهم.
‏وهذا الخلق مستحسن جدا، ولكن من العلماء والرّهبان ورؤساء الدين والخطباء والواعظين ومن يرغّب الناس في المعاد والبقاء بعد الموت. فأما الملوك والعظماء، فإن ذلك غير مستحسن منهم، ولا لائق بهم، لأن الملك إذا أظهر الزهد فقد صار ناقصا، لأن ملكه لا يتم إلا باحتشاد الأموال والأغراض وادخارها، ليذب بها عن ملكه ويصون بها حوزته ويفتقد بها رعيته وذلك مضاد للزهد، فإن ترك الادخار بطل ملكه وصار معدودا في جملة النقص من الملوك الحائدين عن طريق السياسة.






6-   القول في تهذيب الأخلاق


























فهذه الأقسام التي ذكرناها هي أخلاق جميع الناس. أما المحمودة منها، المعدودة فضائل فقلّما يجتمع في إنسان واحد. وأما المذموم منها المعدودة نقائص ومعايب، فقلّما يوجد إنسان يخلو من جميعها، حتى لا يكون فيه خلق مكروه، وخاصة من لم يروّض نفسه، ويؤدبها. فإن من لم يتعمّل لضبط نفسه، ويتفقّد عيوبه، لم يخل من عيوب كثيرة، وإن لم يحس بها ولم يفطن لها. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، كان أولى الأمور بالإنسان أن يتفقّد أخلاقه، ويتأمّل عيوبه، ويجتهد في إصلاحها، ونفيها عن نفسه ويتبع الأخلاق المحمودة، ويحمل نفسه على اعتيادها والتخلّق بها.
***
فإنّ الناس، إنما يتفاضلون على الحقيقة بفضائلهم، لا كما يعتقد الجهّال والعامة، إنهم يتفاضلون بأحوالهم وأموالهم، وكثرة الذخائر والأغراض. فإنّ أكثر الناس، إنما يتفاخرون بالذخائر والأموال والآلات، ويعظّمون أبدا الأغنياء وذوي الأموال، ولا يترتب بعضهم على بعض، إلا بكثرة الأموال، أو بالجاه المكتسب بالمال. وليس كثرة الأموال مما يتفاضل بها الناس، بل كثرة الأموال إنما تتفاضل بها أحوال الناس. فأما نفوسهم، فليست تكون أفضل من نفوس غيرهم بكثرة الأموال. وذلك أن الفاجر السفيه، الجاهل الشرير، وإن حوى أموالا عظيمة، فليس يكون أفضل من العفيف الحكيم، العالم الخير، وإن كان فقيرا، بل إنما يكون بكثرة الأموال أغنى منه.
‏***
فأمّا الفضل، فليس يكون أحد أفضل من أحد، إلا بكثرة الفضائل فقط. فإن اجتمع للإنسان مع الأخلاق الجميلة والعادات المستحسنة الغنى والثروة، فلعمري أنه يكون أحسن حالا من الفاضل المقتّر، لأن من سعادات الإنسان أيضا وخاصة إذا كان فاضلا عادلا عفيفا، أن يصرف ماله في وجوهه، وينفقه في حقه ويتفقد به من يحب تفقده، ويسعف به أهل المسكنة، ولا يقعد عن حق يجب عليه، ولا مكرمة تزيد في محاسنه.
***
فأمّا الناقص الجاهل، السيّء العادات، فإن الغنى ربما زاده نقصا، وانضاف إلى معايبه. فإنه لا يعدّ بخيلا من لا مال له، وإن كان البخل في طبعه، فليس يظهر ذلك منه. وما لم يظهر منه فليس يعاب به، لأن الإنسان إنما يعاب بما يظهر منه، فإذا كان غنيا،ه ذا مال ويسار، ولم يجد به، ظهر بخله، فيصير المال جالبا عليه هذا العيب. وأيضا فإن أكثر الفجور والمحظورات والشهوات الرديئة، ليس تنال إلا بالأموال. فالفقير وإن كان في شيمته الفجور، فليس يكاد يظهر ذلك منه، فإذا كان ذا مال تمكن من شهواته فتظهر عيوبه.
‏فقد يكون الغنى مكسبا لصاحبه عيوبا ونقائص وقد يكون الفقر مفيدا لصاحبه فضائل ومحاسن. فليس تتفاضل الناس على الحقيقة بالأموال والأغراض، وإنما يتفاضلون بالآداب والمحاسن الذاتية.

‏فحقيق بالإنسان أن يسوس نفسه السياسة المستحسنة، ويسلك بها الطريقة المحبوبة، فإنه بذلك يكون محببا إلى الناس، مقبولا عندهم معظما في نفوسهم، مفضلا على غيره، موقّرا عند الرؤساء والملوك، مقبول القول، عريض الجاه.
‏وهذه خير من الرئاسة المكتسبة بالأموال، لأن المال قد تلحقه الجوائح، فإذا فارق صاحبه سقطت منزلته من نفوس الناس. وساوى العامة والسوقة، لأنه إذا رأس بالمال، فالمعظّم له هو ماله لا نفسه، فإذا زال ذلك المال، ‏لم يبق له شيء يعظم من أجله.
***
‏وليس كذلك الفاضل النفس، المهذب الأخلاق، فإن هذا رئاسته بفضائله، وفضائله غير مفارقة له، فهو رئيس ما دام ومعظّم لذاته لا لشيء من خارج. ولأن الراغب في سياسة نفسه، المؤثر تهذيب أخلاقه، إذا نبّه على خلق مذموم، يجده في نفسه، وأحب اجتنابه، ربما صعب عليه الانتقال عنه من أول وهلة، وربما لم ينل التخلص منه، ولم يطاوعه طبعه. وربما استحسن أيضا خلقا محمودا لا يجده لنفسه، وآثر التخلق به، ولم تستجب له عادته، ولم يصل إلى مراده.
‏فوجب أن نرسم للراغبين في السياسة المحمودة طرقا يتدربون بها، ويتدرجون فيها، حتى ينتهوا إلى مرادهم، من اعتياد الأخلاق الجميلة والانطباع بها، وتجنب الأخلاق القبيحة والتفرغ منها.
‏فنذكر من أجل ذلك طريق الارتياض بالأخلاق ‏والتعمّل لاعتيادها.
***
‏وقد ذكرنا فيما تقدّم، أن سبب اختلاف الأخلاق في الناس، هو اختلاف قوى النفس الثلاث فيهم، وهي الشهوانية والغضبية والناطقة، وإن صلاح الأخلاق، هو تذليل الشهوانية منها والغضبية، وتمييز عادات النفس الناطقة، واستعمال المحمود من أفعالها، وطريق التدرج لاستعمال العادات الجميلة والعدول عن العادات المستقبحة هو التدرج في تذليل هاتين القوتين.
***
‏أما النفس الشهوانية، فالطريق إلى قمعها أن يتذكر الإنسان في أوقات شهواته وعند شدة القرم إلى لذاته، أنه يريد تذليل نفسه الشهوانية فيعدل عما تاقت نفسه إليه من الشهوة الرديئة إلى ما هو مستحسن من جنس تلك الشهوة ومتفق على ارتضائه، فيقتصر عليه.
‏فإن بذلك الفعل تنكسر شهواته، ثم يعلّلها ويعدها، فإن سكنت انتصر، وإلا عاود الفعل من الوجه المستحسن. فإنه إذا فعل ذلك وكرر فعله كفت النفس، وإذا استمرت على هذه الحال ألفت النفس هذه العادة، أنست بها واستوحشت مما سواها. وينبغي لمن أراد قمع نفسه الشهوانية أن يكثر من مجالسة الزهّاد والرهبان والنسّاك وأهل الورع والواعظين، ويلازم مجالس الرؤساء، أهل العلم.
***
‏فإن الرؤساء وأهل العلم، وخاصة رؤساء الدين، يعظمون من كان معروفا بالعفة ويستزرون من كان فاجرا متهتكا. وملازمته لهذه المجالس تضطره إلى التصوّن والتعفّف والتجمّل لأولئك لئلا يستزروه، ويغضبوا منه ويلحق برتبة من يعظّم في المحافل.
‏وينبغي له أيضا أن يديم النظر في كتب الأخلاق والسياسة، وأخبار الزهاد والرهبان والنساك وأهل الورع. ويجب عليه أن يتجنب مجالس الخلعاء والسفهاء والمتهتكين، ومن يكثر الهزل واللعب.
‏وأكثر ما يجب عليه تجنبه السكر. فان السكر من الشراب يثير نفسه الشهوانية، ويقويها ويحملها على التهتك. وارتكاب الفواحش والمجاهرة بها. وذلك أن الإنسان، إنما يرتدع عن القبائح بالعقل والتمييز، فإذا سكر، عدم ذلك الذي كان يردعه عن الفعل القبيح، فلا يبالي أن يرتكب كل ما كان يتجنب في صحوه.
***
فأولى الأشياء بمن طلب العفة هجر الشراب بالجملة، وإن لم يمكنه، فليقتصر على اليسير منه، ويكون في الخلوات أو مع من لا يحتشمه. ويتجنب مجالس المجاهرين بالشراب والسكر والخلاعة. ولا يظنن أنه حضر تلك المجالس، واقتصر على اليسير من الشراب، لم يستضرّ به، فان هذا غلط، وذلك أن من يحضر مجالس الشراب، ليس تنقاد له نفسه إلى القناعة بيسير الشراب، بل إن حضر مجالس الشرب وكان في غاية العفّة، تاركا للشرب، متمسكا بالورع، حملته شهوته على التشبّه بأهل المجلس، وتاقت نفسه إلى التهتك. وما أكثر من فعل ذلك وتهتك بعد الستر والصيانة! فشرّ الأحوال لمن طلب العفة حضور مجالس الشراب، ومخالطة أهلها، والاستكثار من معاشرتهم.
***
وينبغي لمن أراد قمع نفسه الشهوانية أن يقل من استماع السماع، وخاصة النسوان، والشابات منهن والمتصنّعات. فان للسماع قوة عظيمة في إثارة الشهوة، فإذا انضاف إلى ذلك أن تكون المسمعة مشتهاة متعمّلة لاستمالة العيون إليها اجتمع على السامع حوادث كثيرة، فربما لم يستطع دفع جميعها عن نفسه.
***
‏والأولى لمن همّ بقهر الشهوة أن يتجنب السماع، وإن لم يكن منه بد، ولم تستجب نفسه إلى هجره بالكلية، فليقتصر على استماعه من الرجال، ومن لا مطمع للشهوة فيه، والإقلال منه خير وأصون للمتعفّف.
‏فأمّا الطعام فينبغي أن نعلم أن غايته هو الشبع لدفع ألم الجوع. وفاخر طعام ودنيئه جميعا مشبعان، فليس للمبالغة في تجويد الطعام الكثير حظ. والأولى هو التوسط في أنواع المآكل، وان يكون من الجنس الذي نشأ عليه الإنسان واعتاده وألفه.
***
‏على أن شهوة الطعام والنهم فيه، وإن كان من الأخلاق الرديئة، فهو أسهلها أهونها، وليس يكسب صاحبها من العار ما تكسبه محبة الشراب والمباضعة، ومعاشرة النسوان ومصاحبة الأحداث المتهيئين للفواحش، فإن ذلك في غاية القبح. وشهوة المآكل أقل قبحا منه وأخف على فاعله، وهو مع ذلك قبيح والاستهتار به، وكثرة النهم والشره إليه مكروه.
***
‏وطريق التدرج إلى الاقتصار في الطعام هو أن يبادر ذو الشهوة إلى أي شيء وجده من المآكل، فان كان المشتهى الذي تاقت نفسه إليه حلوا، فإلى أي حلاوة وجدها، وإن كان غير ذلك، فإلى ما شابهه في الطعم، فإنّه إذا تناول من الطعام ما يشبه ذلك المشتهى في الطعم، فإن شهوته تسكن ونفسه تكفّ.
***
‏وينبغي لمن أحب العفّة أن يكون أبدا متيقظا، ذاكرا لما يلحق الفاجر والنهم والشره والمتهتك، من القباحة والعار. ويجعل ذلك ديدنه وشعاره، فإن نفسه تبغض الشهوات الرديئة وتشتاق إلى التعفّف والقناعة، وتطرب عند العدول عن الفواحش، مع القدرة عليها، وترتاح لما ينشر عنها، ويبلغها عن الناس من الثناء الجميل على صاحبها.
‏فهذا الذي ذكرنا هو طريق إلى رياضة النفس الشهوانية، وتذليلها وقمعها، وهو طريق الارتياض بالعادات المحمودة المرضية، فيما يتعلق بالشهوات واللذّات.
***
‏فأمّا النفس الغضبيّة، فإن طريق قمعها وتذليلها هو أن يصرف الإنسان همّته إلى تفقّد السفهاء الذين يسرعون إلى الغضب، في أوقات طيشهم وحدتهم وتسفههم على خصومهم وعقوبتهم لخدمهم وعبيدهم، ‏فإنه يشاهد منهم منظرا شنيعا، يأنف منه الخاص والعام، وان يتذكر ما شاهد منهم في أوقات غضبه، ‏وعند جنايات خدمه وعبيده، ‏وعند ذنوب إخوانه واودّائه. في جميع محاوراته ومعاملاته. فإنه إذا تذكر ما كان استقبحه من السفهاء. انكسرت بذلك سورة غضبه، وأحجم عما يهمّ بالإقدام عليه، من السب والوثوب، وإن لم يكفّ بالكلية قصر، ‏ولم ينته إلى غاية الفحش.
‏***
وينبغي لمن أراد أن يقهر نفسه الغضبية أن يذكر في أوقات غضبه على من يؤذيه، ‏أو يجني عليه، انه لو كان هو الجاني، ما الذي كان يستحق أن يقابل على جنايته؟ فإنه بهذا الفعل يعتقد أن درك تلك الجناية، ‏أو أرش[2] ذلك الأذى، يسير جدا. فإذا اعتقد ذلك، ‏كانت مقابلته للجاني  والمؤذي بحسب اعتقاده، فلا يسرف في الانتقام، ولا يفحش في الغضب.
‏***
فإذا فعل ذلك دائما وجعله ديدنا، وتفقّد معايب السفهاء، ومن يسرع إليه الغضب، لم يبعد أن تنكسر نفسه الغضبية، وتنقاد له. فإذا استمر على ذلك مدّة صار له ‏خلقا وعادة.
‏***
وينبغي لمن يرغب في تذليل نفسه الغضبية أن يتجنب حمل السلاح وحضور مواضع الحروب ومقامات الفتن ويتجنب مجالسة الأشرار ومعاشرة السفهاء ومخالطة الشّرط. فإن هذه المواضع تكسب القلب قساوة وغلظة وتعدمه الرأفة والرحمة، فتقسو لذلك نفسه الغضبية. فإذا كان يريد تذليلها وتسكينها، وجب أن يجعل مجالسته لأهل العلم وذوي الوقار والشيوخ والرؤساء والأفاضل ومن يقلّ غضبه ويكثر حلمه ووقاره.
***
وينبغي له أيضا أن يتجنب المسكر من الشراب، فإن السكر يهيّج النفس الغضبية، أكثر ممّا يهيج الشهوانية، ولذلك ربما يسرع إلى العربدة، والثوب على جلسائه، والاستخفاف بهم وسبّهم وذكر أعراضهم بالقبيح، بعد أن كان يتحنّن عليهم، ويتودّد إليهم، ولا يكون بين الوقتين إلا بمقدار ما يستحكم به السكر. فالسكر مثير القوة الغضبية، ومقوّ لها، فمن أراد أن يسكّن نفسه الغضبية، فلا بد من أن يتجنب السكر، وإن تمكّن من هجر الشراب البتّة، فهو أصلح لقهر النفس الغضبية والشهوانية جميعا.
‏***
وينبغي لمن أراد تذليل قوّتيه الغضبية والشهوانية، أن يستعمل في جميع ما يفعله الفكر، ولا يقدم على شيء إلا بعد أن يتروى فيه، ويجعل الفكرة واتباع الرأي ديدنه وعادته. فإن الرأي، وجودة الفكرة، يقبّحان له السفه وسرعة الغضب والانهماك في الشهوات، واتباع اللذّات.
فإن استقبح ذلك أحجم عنه، وعدل إلى ما يقتضيه الرأي والفكر. فإن لم يرتدع بالكلية فلا بد أن يؤثر ذلك فيه، فيقتصر عما يريد التسرّع فيه .
‏***
وملاك الأمر في تهذيب الأخلاق، وضبط النفس الشهوانية والنفس الغضبية، هي النفس الناطقة، فإن بهذه النفس تكون جميع السياسات. وهذه النفس إذا كانت قوية متمكنة من صاحبها أمكنه أن يسوس بها قوّتيه الباقيتين، ويكفّ عن جميع القبائح، ويتّبع أبدا محاسن الأخلاق. وإذا لم تكن هذه النفس قوية في صاحبها فكانت مغمورة خافية، فأول ما ينبغي أن يعتمده في سياسة أخلاقه، أن يروّض هذه النفس ويقوّيها.
‏وتقوية هذه النفس إنما تكون بالعلوم العقلية. فإنه إذا نظر في العلوم العقلية، ودقّق النظر فيها ودرس كتب الأخلاق والسياسة، وداوم عليها تيقظت نفسه وتنبّهت من شهواتها، وانتعشت من خمولها، وأحسّت بفضائلها، وأنفت من رذائلها. وذلك أن هذه النفس إنما تضعف وتخفت، إذا عدمت الفضائل والمناقب، واستولت عليها الرذائل. فإذا اقتنت الفضائل واكتسبت الآداب تيقظت من غشيتها واستفاقت من سكرها وقويت بعد ضعفها.
***
وفضائل هذه النفس هي العلوم العقلية وخاصة ما دقّ منها. فإذا ارتاض الإنسان بالعلوم العقلية، ‏شرفت نفسه وعظمت همته وقوي فكره وتمكّن من نفسه وملك أخلاقه وقدر على إصلاحها وانقاد له طبعه وسهل عليه تهذيبه، وأذعنت له القوى الغضبية والشهوانية وهان عليه قمعها وتذليلها.
***
فأول ما ينبغي أن يبدأ به من يحبّ سياسة أخلاقه، ‏النظر في كتب الأخلاق والسياسات، ثم الارتياض بعلوم الحقائق، ‏فإن أشرف ما تكون النفس، ‏إذا أدركت حقائق الأمور وأشرفت على هيئات الموجودات. فإذا شرفت نفس الإنسان وعلت همّته، ‏ترقّى إلى مراتب أهل الفضل.
***
وممّا يصلح النفس الناطقة ويقوّيها أيضا مجالسة أهل العلم ومخالطتهم، والإقتداء بأخلاقهم وعاداتهم، وخاصّة أصحاب علوم الحقائق، والمتيقظين منهم، المستعملين في جميع أمورهم ما تقتضيه علومهم وتوجيه عقولهم.
***
فأمّا تمييز عادات النفس الناطقة، واستعمال ما حسن فيها وإطّراح ما قبح، فذلك إنما يمكن ويسهل أيضا إذا راض الإنسان نفسه الناطقة. فإن النفس الناطقة إذا ارتاضت بالعلوم الحقيقية وتيقظت وتشرفت، أنفت من العادات المستقبحة وتنزهت عن التنّدس بها، فيهون حينئذ على صاحبها تجنّب ما يكره من عاداتها، ويغلب عليه استحسان الأخلاق الجميلة، والتخلق بها.
***
وقد تبين من جميع ما ذكرنا أن طريق الارتياض بالأخلاق المحمودة والتصنّع لاعتيادها واتباع المحمود المرضيّ منها واجتناب المذموم والمستقبح، وتذليل قوة الشهوة والغضبية، وضبطها وقهرها، هو إصلاح النفس الناطقة وتقويتها وتحليتها بالفضائل والآداب والمحاسن، فإن ذلك هو آلة السياسة ومركب الرياضة.
‏***
ومن لم يتمكّن من اكتساب العلوم العقلية والإمعان فيها أو تعذّر عليه ذلك، فليبذل جهده في تدقيق الفكر ومجاهدة النفس وتمييز ما بين عادته القبيحة والجميلة وينظر أيّهما أجدى عليه وأيّهما انفع له وأيّهما أحمد عاقبته وأبقى على الأيام. فإنه إذا صدق نفسه، ‏وجد شهواته ولذاته إنما هي ملذّة وقت استعمالها فقط، فأما بعد مفارقتها، فليست باقية عليه ولا نافعة له ويجد عارها وشينها باقيا على الدهر، متداولا بين الناس، يعاب به ويزرى عليه بقبحه.
***
وكذلك شدّة الغضب والتسرّع إلى الانتقام والسبّ والفحش، فإنه إذا انجلت غمرته وسكنت سورته، وتأمل أمره، ورأى ما فعله وجده قبيحا ولم يجده مجديا ولا مفيدا، وقد صار ما فعله عند الغضب نقيصة، يوسم بها ومعرّة يسبّ بها وربّما ارتكب في الغضب جنايات، يعاقب عليها ويؤدّب من أجلها.
‏***
وكذلك العادات المكروهة من عادات النفس الناطقة أيضا، يجدها غير نافعة ولا مجدية. وذلك أن الحسد والحقد والخبث، وأمثال هذه، لا ينتفع بها صاحبها، وإن انتفع بالخبث والشر فشر منفعة، ومع ذلك هو ضار له. فإن من تشرّر، قصده الناس بالشر، واستعدوا لأذيّته وتعمّلوا للإضرار به، وتوقّوه واحترزوا منه وكرهوا نفعه، وقصروا عليه وجوه الخير واجتهدوا في ذلك، وما أسوأ حال من هذه صفته.
***
فمستعمل الشرّ والخبث سيئ الحال، يضرّه من شرّه أكثر مما ينفعه. فإذا حاسب الإنسان نفسه وأجال فكره وتمييزه، علم أن الضرر في مساوئ الأخلاق أكثر من النفع بها، وأن الذي يعدّه منها نفعا، فليس هو بنفع على الحقيقة، ‏وهو يسير جدا غير باق ولا مستمرّ. فإن هذا اليسير الذي يعدّه نفعا لا يفي بالضرر الكثير والعار الدائم المتّصل.
‏***
ويعلم أيضا أن الشر والخبث يجلبان عليه الشر، ويوحشان منه الناس. فإذا داوم ذلك وأكثر منه قوي في نفسه اتباع محاسن الأخلاق وسهل عليه اطّراح مساوئها ومقابحها، وغلب عليه الخير والسداد، وفزع من العيب والعار. فإذا فعل ذلك دائما، لم يلبث أن يصلح أخلاقه وتحسن طريقته، وتهذّب شمائله، ويلحق برتبة أهل الفضل، يتميز عن أهل الدّنس والنّقص.
***
وينبغي لمن أراد سياسة أخلاقه أن يجعل غرضه، من كل فضيلة، غايتها ونهايتها، ولا يقنع منها بما دون الغاية ولا يرضى إلا بأعلى درجة. فإنه إذا جعل ذلك غرضه، كان حريّا أن يتوسّط في الفضائل، ويبلغ منها رتبة مرضية إن فاتته الدرجة العالية. فأما إن قنع بالتوسّط، لم يأمن أن يقصّر عن بلوغه، فيبقى في أدون المراتب، ويفوته المطلوب، ولا يطمع أبدا في التمام.
‏***
فهذا الذي ذكرنا هو طريق الارتياض بمكارم الأخلاق، ومنهج التدرّج في محمود العادات. فإذا أخذ الإنسان نفسه به، وأكثر مراعاته وتعهّده، صارت له الفضائل ديدنا والمحاسن خلقا وطبعا.





7-       القول في أوصاف الإنسان التام/ الكامل
























وقد بقي علينا أن نذكر أوصاف الإنسان التام، الجامع لمحاسن الأخلاق، وطريقته التي يصل بها إلى التمام، فنقول:
‏الإنسان التام هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنّعه رذيلة. وهذا الحدّ قلما ينتهي إليه الإنسان. فإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحدّ، كان بالملائكة أشبه منه بالناس. فإن الإنسان مضروب بأنواع النّقص، ‏متسول عليه وعلى طبعه ضروب الشر. فقلّما يخلص من جميعها حتى تسلم نفسه من كل عيب ومنقصة، وتحيط بكل فضيلة ومنقبة.
***
إلا أن التمام وإن كان عزيزا بعيد التناول فإنه ممكن. وهو غاية ما ينتهي إليه الإنسان ونهاية ما هو متهيئ له. وإذا صدقت عزيمة الإنسان وأعطى الاجتهاد حقه، كان قمينا بأن ينتهي إلى غايته التي هو متهيئ لها، ويصل إلى بغيته التي تسمو نفسه إليها.
***
فأمّا تفصيل أوصاف الإنسان التام، فهو أن يكون متفقّدا لجميع أخلاقه متيقّظا لجميع معايبه متحرزا من دخول نقص عليه، مستعملا لكل فضيلة، ومجتهدا في بلوغ الغاية، عاشقا لصورة الكمال، مستلذا لمحاسن الأخلاق، متيقظا في الأصل، مبغضا لمذموم العادات، معتنيا بتهذيب نفسه، غير مستكثر لما يقتنيه من الفضائل مستعظما اليسير من الرذائل، مستصغرا للرتبة العليا، مستحقرا للغاية القصوى، يرى التمام دون محلّه، والكمال أقلّ أوصافه.
‏***
فأمّا الطريقة التي توصله إلى التمام وتحفظ عليه الكمال، فهي أن يصرف عنايته إلى النّظر في العلوم الحقيقية، ويجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة، وكشف عللها وأسبابها، وتفقّد غاياتها ونهاياتها، ولا يقف عند غاية من عمله إلا ورمى بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية. ويجعل شعاره ليله ونهاره قراءة كتب الأخلاق وتصفح كتب السير والسياسات وأخذ نفسه باستعمال ما أمر أهل الفضل باستعماله وأشار المتقدّمون من الحكماء باعتياده، ‏وينشد أيضا طرفا من أدب اللسان والبلاغة، ويتحلّى بشيء من الفصاحة والخطابة، ويغشى أبدا مجالس أهل العلم والحكمة، ويعاشر دائما أهل الوقار والعفّة.
‏***
هذا إن كان رعية وسوقة، فإن كان ملكا أو رئيسا، فينبغي أن يجعل جلساءه ومنادميه وحاشيته والمطيّفين به، كل من كان معروفا بالسرّ والسّداد، موصوفا بالأدب والوقار مخصصا بالعلم والحكمة، متحققا بالفهم والفطنة. ويقرب مجالس أهل العلم ويبسطهم، ويكثر مجالستهم والأنس بهم، ويجعل تفرّجه وتفكّهه مذاكرتهم في العلم وفنونه، وسياسة الملك ورسومه، وأخبار الحكماء وأخلاقهم، وسير الملوك الأخيار وعاداتهم.
***
‏وينبغي للإنسان التام، ولمن طلب التمام أيضا أن يجعل لشهواته ولذاته قانونا راتبا يقصد فيه الاعتدال، ويتجنب السّرف والإفراط، ويعتمد من الشهوات واللذات المعتدلة ما كان من الوجوه المرتضاة المستحسنة، ويأخذ نفسه بذلك ويحصر عليها الطمع في لذة مكروهة أو شهوة مسرفة، ويهجر أصحاب اللذات ومعاشرتهم وينقبض عن الخلعاء ومخالطتهم، ويشعر نفسه أن الشهوة عدوّ مكاشح، وخصم مكافح، يريد أبدا ضرره وأذيته، ويعتمد شينه وفضيحته فيناصب شهوته بالعداوة، ويكاشفها بالمعاندة ويقمع أبدا سورتها، ويكسر دائما حدّتها، ويقهر دائما سطوتها، ويذلّل على التدريج عزّها ويسكن على الترتيب فورها. فإنه إذا فعل ذلك، كان خليقا أن يملك نفسه، وتنقاد له شهوته، وينطبع بالعفة ويألف حسن السيرة.
***
‏ومتى أرخى لشهوته عنانها، وسمح لها في مرادها، وأهمل سياستها ومراعاتها، استطالت وشمخت، ولم تلبث أن توهن صاحبها، وتقوده وتحمله على ما يسوؤه ويغره، فيصير بذلك بعيدا من التمام، غير طامع في الكمال.

***
‏وينبغي لمن يطلب التمام أن يعلم أنه لا سبيل له إلى بلوغ غرضه، ما دامت اللذة عنده مستحسنة، والشهوة مستحبة. وهذه الحال صعبة جدا متعسّرة على طالبها، بعيدة المأخذ، وهي على الملوك والرؤساء أصعب وأبعد، لأن الملوك والرؤساء أقدر على اللذات، أشدّ تمكّنا والشهوات واللذات لديهم معرضة، ولهم سجية وعادة، فمفارقتها عليهم متعذرة، وإعراضهم عنها كالشيء الممتنع، خاصة لمن قد نشأ على الانهماك فيها، ‏والتوفر عليها.
***
‏إلا أن الملوك، وإن كانوا أقدر على اللذّات وأكثر اعتيادا لها، فهم أعظم همما وأعز نفوسا. والمحصل منهم إذا سمت نفسه إلى التمام الإنساني، واشتاقت إلى الرئاسة الحقيقية علم أن الملك أحق بأن يكون أتم أهل زمانه، وأفضل من أعوانه ورعيته، فيهون عليه مفارقة الشهوات الرديئة، ‏وهجر اللذات الدنيئة.
***
وينبغي لمن رغب في سياسة أخلاقه وأحب أن يسلك طريق الاعتدال في شهواته، أن يجعل له قانونا ينتصر عليه في المآكل والمشارب معروفا بالكرم، وهو أن لا يستبد بالمأكل والمشرب وحده، بل يقصد أن يشرك في ماله من ذلك إخوانه وأودّاءه إن كان رعية أو سوقة.
‏وإن كان ملكا أو رئيسا، فيجمع عليه حاشيته وندماءه، ويعمّ به أصحابه وأعوانه، ويتفقد بفضلاته أهل الفقر والمسكنة، وخاصة من سبقت له معرفة، أو تقدمت له حرمة. ويصرف إلى ذلك حظا من عنايته، فإن اعتداد هؤلاء بما يصل إليهم من برّه أكثر من اعتداد حاشيته وأصحابه. وليظهر لمن يجتمع على مائدته وعلى طعامه وشرابه من إخوانه وأصدقائه ورعيته وندمائه، إن كان ملكا أو رئيسا، أنّ جمعه لهم للأنس بهم، والسرور بمعاشرتهم، لا ليكرمهم بطعامه وشرابه، ولا أن لذلك قدرا يعتدّ به. وليحترز كل الاحتراز من أن يبدو منه امتنان بالطعام والشراب، أو تبجّح به، فإن ذلك يزري بفاعله ويغض منه، ويوحش من يغشاه ويقطعهم عنه.
***
وقد يستحسن من الإنسان أيضا إذا كان مقلا، أن يؤاسي بطعامه إخوانه، وإن كان محتاجا إليه. ويستحسن أيضا أن يؤاسي به الفقراء والضعفاء. وقد يستحسن أيضا أكثر من ذلك أن يؤثر الإنسان بطعامه وشرابه غيره وإن كان شديد الاضطرار إليه، وكان لا يقدر على غيره.
***
وينبغي أيضا لمن طلب السياسة التامة أن يستهين بالمال ويحتقره، وينظر إليه بالعين التي يستحقها. فإن المال إنما يراد لغيره، وليس هو مطلوبا لذاته، فإنه في نفسه غير نافع، وإنما الانتفاع بالأغراض التي تنال به، فالمال آلة تنال بها الأغراض، فلا يجب أن يعتقد أن اقتناءه وادخاره مفيد، فإنه إذا ادّخر وحرص، ‏لم ينل صاحبه شيئا من الأغراض التي هو بالحقيقة محتاج إليها، ‏فالمال هو مطلوب لغيره.
***
‏وينبغي لسديد الرأي، ‏العالي الهمّة، أن يزنه بوزنه، ‏فيكسبه من وجهه ويفرّقه في وجوهه ويكون مع ذلك غير متوان في اكتسابه، ‏ولا مفتر في طلبه، ‏لأن عدم المال يضطره إلى التواضع لمن هو دونه، إذا وجد عنده حاجته ووجود المال يغنيه عمّن هو فوقه، وإن دنت منزلته.
‏ويكون أيضا غيّر مدخره، ولا متمسك به، بل يصرفه في حاجاته، ‏وينفقه في مهماته، ‏ويقصد الاعتدال في تفريقه، ‏ويحذر من السّرف والتبذير في تخريجه، ولا يمنع حقا يجب عليه، ولا يصرفه في شيء لا يحب، ولا يشكر عليه.
***
وإذا فرغ من حاجاته، ‏واستكفى من نفقاته وسدّ خلله، عاد إلى النظر في أمره، فإن كان بقي من ماله بقية فاضلة عن مهمّ أغراضه أخرج منها قسطا، فجعلها عدّة يستظهر بها لشدة ويعدّها لنائبة، ثم عمد إلى الباقي ففرّقه في ذوي الحاجة من أهله وأقاربه وإخوانه وأهل مودته وجعل فيه قسطا للضعفاء والمساكين وأهل الفاقة والمستورين. ويجعل اهتمامه بأفضاله وبرّه أكثر من اهتمامه بضرورياته، فإن الضروريات تقوده كرها إليها. والبرّ والنوافل متى لم يهتم بها ويشعر نفسه التزامها، لم يسهل عليه فعلها لأن ضعف النفس، وسوء الظن يصرفانه عنها. وإن لم يكن له جاذب من نفسه وداع قوي من همّته، ‏لم يقدم عليها، ‏وغلب عليه التواني.
***‏
فإذا توانى عن البرّ والتفضل، كان شحيحا ضنينا بخيلا دنيئا، وليس بتام، بل ليس بالحقيقة إنسان من لم يكن له برّ يعرف، ولم تنشر عنه أفعال توصف، هذا إن كان من أوساط الناس.
‏***
فأمّا الملوك والرؤساء، فإنهم أحق بهذه السياسة، ويجب أن يكونوا بذلك أشدّ عناية فيجبوا الأموال في حقها وواجباتها، ويصرفوا منها في نفقاتهم ومؤوناتهم، وأرزاق جندهم وأصحابهم قدر الكفاية، من غير سرف ولا تقتير، ويعدّوا منه شطرا لخوف عاقبة ويصرفوا الباقي في طرق الكرم والجود، ووجوه الخير والبر، فيعطوا أهل العلم على طبقاتهم، ويجعلوا لهم رواتب من خواص أموالهم، ويدفعوا لمن هو مثابر على العلم والأدب، ويبرّوا الضعفاء المساكين ويتفقدوا الغرباء والمنقطعين، ويهتموا بالزهاد وأهل النّسك ويخصّوهم بقسط من أفضالهم وانعامهم، ويعتنوا بالصغير والكبير من رعيتهم، وينفقوا في مصالحهم شطرا من أموالهم، فإن الملوك أولى بالكرم من الرعية وأحق بالجود من العامة.
***
وقد يستحسن أيضا من المقلين والمقتّرين المؤاساة بالمال والإيثار به، وإن كانوا محتاجين إليه، ‏وكلما كانت حاجاتهم أشد كان ذلك الفعل أحسن.
***
‏وهذه الحال تستحسن إذا رأى الرجل أخا من إخوانه، أو صديقا من أصدقائه، يختص به قد دعته الحاجة إلى ما لا يقدر عليه لإصلاح شيء من شأنه ولدفع محنة نزلت به، ‏وكان هو قادرا على ذلك القدر من المال، فيبتدئ بإسعافه عفوا من غير مسألة، فإن فعل هذا الفعل مع الغريب الذي لا يعرفه، ‏ولم تسبق له حرمة ولا مودّة، كان جميلا مستحسنا.
‏***
وينبغي لمحب الكمال أن يشعر نفسه أن الغضبان بمنزلة البهائم والسباع، يفعل ما يفعله من غير علم ولا روية. فإن جرى بينه وبين غيره محاورة أدّت إلى أن يغضب خصمه ويسفّه عليه، اعتقد فيه أنه في تلك الحال بمنزلة البهائم والسباع، فيمسك عن مقابلته، ويحجم عن الإقتصاص منه، لأنه يعلم أن الكلب لو نبح عليه، لم يكن يستجيز مقابلته على نبحه.
‏وكذلك البهيمة لو رمحته، لم يستحسن عقوبتها لأنها غير عالمة بما تصنعه، إلا أن يكون جاهلا سفيها، فإن من السفهاء من يغضب على البهيمة، إذا رمحته، ويوجعها ضربا إذا آذته. وربما عثر سفيه، فشتم موضع عثرته ورفسه برجله!.
***
‏فأمّا الحليم الوقور فلا يستحسن شيئا من ذلك. وإذا استشعر من خصمه أنه بمنزلة البهائم، حال الغضب، صار هذا الاستشعار منه طريقا إلى ضبط النفس الغضبيّة وزمّها. فإن آذاه مؤذ بغير سبب، فيؤدّي ذلك الأذى إلى حال تغضبه أنف أيضا من الغضب، مع استشعاره أن الغضبان والبهيمة سواء، فيعدل حينئذ إلى مقابلة مؤذيه بجميل ما يقتضيه الرأي، من حيث لا يظهر فيه غضب ولا سفه.
***
‏وينبغي لمحب الكمال أيضا أن يعوّد نفسه محبة الناس أجمع، والتودّد إليهم والتحنّن عليهم والرأفة والرحمة لهم. فإن الناس قبيل واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الأهلية التي هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة.
***
‏وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا، وهي أشرف جزئي الإنسان اللذين هما النفس والجسد. فالإنسان بالحقيقة هو النفس العاقلة، وهي جوهر واحد في جميع الناس، والناس كلهم بالحقيقة شيء واحد، وبالأشخاص كثيرون. وإذا كانت نفوسهم واحدة، والمودّة إنما تكون بالنفس (العاقلة)، فواجب أن يكونوا كلهم متحابين متوادّين، وذلك في الناس طبيعة، لو لم تقدهم النفس الغضبيّة، فإن هذه النفس تحبب لصاحبها الترؤس، فتقود صاحبها إلى الكبر والإعجاب والتسلط على المستضعف، واستصغار الفقير وحسد الغني وذي الفضل، فتسبب من أجل هذه الأسباب العدوات وتتأكد البغضاء بينهم.
***
‏فإذا ضبط الإنسان نفسه الغضبية، وانقاد لنفسه العاقلة، صار الناس كلهم له إخوانا وأحبابا. وإذا أعمل الإنسان فكره، رأى أن ذلك واجب، لأن الناس أما أن يكونوا فضلاء أو نقصاء، فالفضلاء يجب عليه محبتهم لموضع فضلهم، والنّقصاء يجب علية رحمتهم لموضع نقصهم.
***
‏فبحق يجب لمحب الكمال أن يكون محبا لجميع الناس، متحنّنا عليهم، رؤوفا بهم وخاصة الملك والرئيس. فإن الملك ليس يكون ملكا، ما لم يكن محبا لرعيته رؤوفا بهم. وذلك أن الملك ورعيته، بمنزلة رب الدار وأهل داره، وما أقبح رب الدار أن يبغض أهل داره، ولا يتحنّن عليهم ولا يحب مصالحهم.
***
‏وينبغي لمحب الكمال أن يجعل همّته فعل الخير مع جميع الناس، وإنفاق ما يفضل من ماله في ما يبقي له الذكر الجميل بعد موته ويتحرز من فعل الشر. فإنه إذا حاسب نفسه علم أن من يفعل الشرّ، فإنما يفعله لخير يعتقد أنه يصل إليه بذلك الشر، وربما كان غالطا وربما كان مصيبا. وإذا علم أن الأمر على هذه الصفة، كان واجبا أن يطلب الخير الذي كان يرومه، من طريق غير طريق التشرّر، إذا كان هو الغرض المطلوب لا فعل الشر.
***
‏فأمّا إذا كان تشرّره لشفاء غيظ يلحقه فليعلم أنه إذا سكن غيظه، وجد ذلك المقصود بالشرّ غير مستحق لذلك الفعل، ففعل الشرّ قبيح وخاصة بمن قد جمع الفضائل، إلا أن يكون ذلك الشرّ تأديبا على جرم، أو اقتصاصا من جان لأن هذه الحال مستحبة محمودة، بل لا تعد شرّا لأنّ ذلك الشرّ إنما يصل إلى الجاني فقط ويكون منه نفع عام لجميع الناس بأن يرتدع به أمثاله من الجناة، فتكون المنفعة فيه أكثر، فمن أجل ذلك لا يعدّ شرّا.
***
وإذا اعتمد الإنسان فعل الخير وألفه وتجنب الشرّ واستوحش منه، أنف من الأخلاق المكروهة التي تعد شرّا كالحسد، والحقد والخبث، والخديعة، والنميمة، والغيبة، والوقيعة وأمثال هذه العادات. وإذا فكر العاقل المحصل فيها، علم أنها غير مجدية عليه نفعا، وهي مع ذلك تشينه وتقبّح صورته. وإذا كان محبا للتمام مستشرفا للكمال كان واجبا عليه تجنّب هذه الأخلاق.






















8-  خاتمة:
غاية الحكمة والمحلوم به... فلسفيا

























وينبغي لمحب الكمال أن يعتقد أنّه ليس شيء من العيوب والقبائح خافيا عن الناس وإن اجتهد صاحبها في سترها، فلا تطمع نفسه في ارتكاب فعل قبيح يظن أنّه منكتم عن الناس، حتى لا يقف عليه أحد.
***
ويجب أن يعلم أن الناس بالطبع موكّلون بتتبّع عيوب الناس وتعييرهم بها، وذلك في الناس غريزة والسبب فيه أن الإنسان ما لم يبلغ التمام، فليس يخلو من تقصير يعاب به ويسوؤه أن يكون غيره أفضل منه، فهو يسرّ أن يكون الناس كلهم نقصاء، ليساووه في النقص ويحلّوا دونه. فهو أبدا يتتبّع معايب الناس ويعيّرهم بها ليري الناس أنه أفضل ممّن فيه ذلك العيب ويشعر نفسه أيضا ذلك، لتطيب بما فيها من العيب، فليس شيء من العيوب بخاف عن الناس وإن اعتمد ستره.
***
وقد يظنّ كثير من الملوك والرؤساء أن عيوبهم مستورة عن الناس، غير بادية، وذلك لموضع هيبتهم، وعظم سطوتهم، ويستشعرون أن حاشيتهم وخواصّهم لا يجسرون على إظهار أسرارهم، إن وقفوا على شيء منها. وهذا نهاية الغلط، لان خواصّ الملك وحاشيته، كما أنهم عنده ثقاة أمناء، كذلك لكل واحد منهم خاصّة وثقاة يخرج إليه بأسراره. والذي لا يستر الإنسان عنه أسرار نفسه، فمحال أن يستر عنه أسرار غيره.
***
‏وهذه الحال طريق إلى انتشار معايب الملوك الذين يظنون أنها مستورة. والعلّة في ظنهم أن عيوبهم مستورة هو أنهم لا يسمعون أحدا يذكرها، ولا أحد يتنصّح إليهم بها، فيظنون أنها خفية. فإذا أحب الإنسان أن يعلم أن عيوبه غير خافية، فليعد إلى نفسه وينظر هل يعرف لأحد عيبا كان يستره ويخفيه، فإنه يجد للناس عنده عيوبا كثيرة، قد اجتهدوا في سترها وحرصوا على صونها، ومنهم من يظن أنها خفية، ومنهم من يعلم أنها قد انتشرت بعد الستر. فإذا علم انه عارف بأسرار كثير من الناس، كانت مستورة، فالواجب أن يعتقد أن عيبه غير خاف ولا منكتم، وان الناس يعرفون من عيوبه أكثر مما يعرف من عيوبهم.
***
‏فينبغي لمحب الكمال أن يعتقد أن عيوبه ظاهرة وإن اجتهد في إخفائها. وليس بتام من عرف له عيب، ولا طريق إلى التمام إلا باجتناب العيوب بالكلية، والتمسك بالفضائل في سائر الأمور. وهذه الرتبة غاية تمام الإنسانية ونهاية الفضيلة البشرية، وواجب على كل إنسان الاجتهاد في بلوغها، واستفراغ الوسع في الوصول إليها، لان التمام مطلوب لذاته والنقص مكروه لعيبه.
‏وأحقّ الناس بطلب هذه المرتبة، وأولاهم بالتجمّل لبلوغ هذه المنزلة الملوك والرؤساء لان الملوك والرؤساء أشرف الناس، وأعظمهم قدرا وما أقبح بالشريف العظيم القدر أن يكون ناقصا!.
***
فالملوك إذا ينبغي أن يكونوا أشدّ الناس حرصا على بلوغ الكمال لأن الكامل من الناس الجامع للفضائل متوثب بالطبع على الناقص من الناس. فالإنسان التام رئيس بالطبع، وإذا كان الملك تاما جامعا لمحاسن الأخلاق، محيطا بجميع المناقب، كان ملكا بالطبع. وإذا كان ناقصا كان ملكا بالقهر. وما أولى بالملك أن يرغب في الرئاسة الحقيقية، لا التي تكون بالقهر، والشرف الذاتي ولا ما هو بالغصب.
***
فالواجب أن يصرف الملك همّته إلى اكتساب الفضائل واقتناء المحاسن ويطلب الغاية من المكارم ويستصغر الكبير منها، حتى يحوز جميعها ولا يرضى بالنهاية، حتى يزيد عليها. فإنه إن رضي برتبة فوقها رتبة، لم يصر أبدا إلى التمام، وإن أبعد الناس من التمام من رضي لنفسه بالنقصان. فإذا طلب الملك الكمال فأول ما يجب أن يعتاده عظم الهمّة، فإن عظيم الهمّة تصغر في عينه كل رذيلة وتحسن له كل فضيلة.


***
وإذا عظمت همّة الملك سلم من الإعجاب بملكه، ورأى نفسه وهمّته أعظم قدرا من أن يستكثر ذلك الملك. وإذا احتقر الملك ملكه الذي به عزه وعظمته، طلب لنفسه ما يعظمها بالحقيقة، وليس تعظم النفس إلا بالفضائل.
***
ثم ينبغي له أن يكره الملق ويبغض المتملقين وينهاهم عن تلقيه به. وملاك أمره أن يتعرّف عيوبه حتى يمكنه توقيها، والتحرّز منها، وهذا أبدا في الملوك صعب، لان الإنسان بالطبع يخفى عليه كثير من عيوبه. فالذي يخفى على الملوك أكثر لإعجابهم بمحاسنهم وعظم مراتبهم.
***
وأيضا فإن الرعية والسوقة يبكّتون بعيوبهم ويعيّرون بها، فهم يعرفونها. والملوك لا يجسر أحد على تبكيتهم ولا يقدم أحد على نصحهم وتبكيتهم على عيوبهم، لأن الناس أجمع يقصدون التقرب إلى الملوك وتملقهم فلا يقولون لهم إلا ما يحبّون، لينالوا الحظوة عندهم فعيوب الملوك أبدا خفية عنهم!.
***
‏وينبغي للملك إذا أحب أن يتنزّه من العيوب ويتطهّر من دنسها أن يتقدم إلى خواصّه وثقاته ومن كان يسكن إلى عقله وفطنته من خدمه وحاشيته، فيأمرهم أن يتفقّدوا عيوبه ونقائصه ويطلعوه عليها ويعلّموه بها.
***
‏وينبغي له أن يتلقى من يهدي إليه شيئا من عيوبه بالبشر والقبول، ويظهر له الفرح والسرور، بما أطلعه عليه. بل المستحسن منه أن يجيز الذي يوقفه على عيوبه أكثر مما يجيز المادح على المدح والثناء الجميل ويشكر من ينبّهه على نقصه ويتحمّل لومته على فعله، فإنه إذا لزم هذه الطريقة وعرف بها، يسرع أصحابه وخواصّه إلى تنبيهه على عيوبه. وإذا نبّه على ما فيه من النقص أنف منه واستشعر أن أولئك سيعيّرونه به ويصغّرونه من أجله فيلزمه حينئذ أن يأخذ نفسه بالتنزّه من العيوب ويقهرها على التخلّص من دنسها.
***
‏فإذا فعل ذلك وتوفّر على اقتناء الفضائل وألزم نفسه التخلّق بالمحاسن ولم يرض من منقبة إلا بغايتها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلا، ويبقي له الذكر الجميل آجلا، لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام ويرتقي إلى النهاية من الكمال، فيحوز السعادة الإنسانية والرئاسة الحقيقية ويبقي له حسن الثناء مؤبدا، وجميل الذكر مخلّدا.
***
‏فقد أتينا على صفة الإنسان التام الجامع لمحاسن الأخلاق، والطريقة التي تؤدّيه إلى هذه الرتبة وتحفظ عليه هذه المنزلة. وقدّمنا ما يجب تقديمه من سياسة الأخلاق وتهذيب النفوس.
***
فما أولى من نظر في هذا القول وتصفّحه وفهم مضمونه وتدبّره، أن يأخذ على نفسه باستعمال ما بين فصوله ويسوس أخلاقه بالتطرّق إلى الذي فنّن في تضاعيفه، ويجتهد كل الإجتهاد في تكميل نفسه ويستفرغ غاية الوسع في طلب تمامه. فما أقبح النقص بالقادر على التمام، والعجز من المستعد لنيل الكمال.
***
وهذا حين نختم القول في تهذيب الأخلاق.
والمجد لواهب العقل دائما أبدا آمين.
***








تقديم "كتاب التهذيب" للحكيم التكريتيّ العراقيّ5…...................
أخلاق تدبير اللذّات :"السعادة الإنسانية والرئاسة الحقيقية"……...7
"شذرات من المتن"9…………...............................................
خطبة الكتاب/ دواعي التأليف21………………………………
1-   القول في تعريف الأخلاق وأنواعها……………………25
2-   القول في الأسباب الموجبة لاختلاف الأخلاق وسياسة اللّذات31……….
3-   القول في تعريف الأخلاق الحسن45……………….………
4-   القول في الأخلاق الرديئة وأنواعها....…………………59
5-       القول في الأخلاق التي تكون في بعض الناس فضيلة وفي بعضهم رذيلة….71
6-   القول في تهذيب الأخلاق وسياسة اللذّات وتدبير الأهواء، والانفعالات..77
7-   القول في أوصاف الإنسان التام/ الكامل………………….99
8-   خاتمة: غاية الحكمة والمحلوم به... فلسفيا………………117








[1] مثل الحدائق والقصور الفخمة.
[2] الأرش: ديّة الجراحات.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث