vendredi 17 avril 2015

ضدّ العُنْف زمَن دمَقْرَطَة اُلْــفَضيحَة والتَمَثّل اُلْإرْهَابِي للتّاريخ..)

الفيْلسوف اُلْإرْتِــوازي – اُلْشّهْرزادِي  التّونِسي   مُصْطفى كَمَال فَرحات

( بيداغوجيا "اُلْــتّأجيجِ" و"التّأويجِ "
ضدّ العُنْف زمَن دمَقْرَطَة اُلْــفَضيحَة والتَمَثّل اُلْإرْهَابِي للتّاريخ..)
·      
( الحلقة الثانية )
·     
وأنا في الطّريق إلى لقاء الفيْلسوف الإرْتوازي _ الشهْرزاديّ التّونسي مُصطفي كمال فرحات  كان يَخْترقُني شُعورٌ غَريبٌ من الحُزن والألَم والقَرَف  و"القَلَقِ الوُجودي" رغْـم مُحاولاتي الجديّة لتوطين نفسي  ضِدّ النّكَد الوطَني بسِلاح التفاؤل المرح  ضد " مُبيدات الفَرْحِ " ...وقد تعدّدت أسْباب هذا " القلق " المُوجِع للقَلب المَوْجُوعِ أصْلا  وتشابَكتْ هذه الأسْبابُ. منْها مَا يعودُ أساسا لقذائف أخْبار الحروب المُعْلنة هنا وهناك .. ومنْها ما يعودُ الى خبر مطوّل حول " وقائع الرّجم " التي تعرّضت لها امْرأة مَشرقيّة  بتُهمة الزّنا "  بشْكل فُــرجوي تراجيدي  وهي  بيْن  حُشود "المُحْتفلين الكهْفيين"   بقتلها  باسم "الشّرف" و"الشّريعَة"  عِرقًا بعرقٍ طالبين – ويا لنِفَاقِهم -  من والدهَا الذي رفض أن يُسَامِحها على فِعلتها  بأن يُسامحها ..في مأتَم حَالك السّواد يَمْتزج فيه الدّمع بالدّم والتّكبير بالتضرّع  اليَائِس ...وقد يَكون ثمّة سببٌ آخر قد أثار ثائرات ألمي وحزني هذا الصّباح  أنّي رأيتُ بالأمس  رأسيين مَقطوعين لمُهْريْ جياد جميلة حتّى و هي ميّتة – يا الله -   ملقاة هكذا في العراء :رأس في " البوبال " وأخرى على قَارعَة الطّريق في "نهج الإستقلال " قرب المغازة العامّة عند " ساحة الاتّحاد العام التونسي للشغل " في مدينة  سياحيّة  ساحليّة من أحبّ المُدن التونسية لقلبي لاَ أُريد ذكر اسْمها  احتراما لأهلي من أهلها . اكتفيتُ بأن إلتقطت  بعض الصّور...للجَواديْن _ المُهْرين  الجَميلين ...مَقطوعي  الرأس – يا الله - .. ليطير بي  خَيالي القِرائي لديوان  ابن حوريّة الفلسطينيّة  الخالد محمود  
درويش " لماذا تركت الحِصانَ وحيدا " و إلى مَكْتبتي
 الضّائعة و ما حَوتْه  من  مُتون تُراثيّة نادِرة حول" الخيول والفروسيّة "  وتذكّرت  ضمن ما تذكّرتُ حديثا يُنسب للرّسول الكريم  في تكريم الجياد: " لا تقودوا الخيْل بنواصيها فتذلّوها "
حين التقيتُ الفيلسوف كان قلبي يعْتَصِر فرويتُ له الحادثة الموجعة فأمْطرت داخله وإن هو أخفى عنّي كما عهدته دموعه  فاغْتَبَطْتُ لتَعاطُفه العاطفي السّافِر معي ومع  الجِياد الصّريعة  وهو " أبو جاد " ..  وقلت بيني وبين ثيابي مُستحضرا غاستون باشلار وشاهق شعْريّته :
" هل يمكن أن يصبح الفيلسوف  عالم  نَفْس... ؟ هلْ يَسْتطيع طيّ كِبريائه و الإكْتفاء بمُلاحظة الأحْداث وهو الذي دخل بكلّ الشّغف المَطلُوب عَالم القـيم ؟ إنّ الفيلسوف يبقى كما نقول اليوم " في وضعيّة فلسفيّة " وأحيانا يتباهى بكونه يبدأ كلّ شيء من الصّفر ولكن وللأسف انّه يتابع مسيرته... فقد قرأ كثيرا من كتب الفلسفة وتحت ذريعة درس هذه الكتب وتدْريسها شوّهَ "منظومات" لاتُحْصى وعندما يَحين المساء ويتوقّف عن التّدريس يروح يتصوّر أنّه يملك حقّ  الإنغلاق في المنظومة  التي اختارها " . لكن سرعان ما استدركت على هذا الاستحضار البشلاردي وقلت لي إنّ فيلسوف الجوديّة  جوّاب آفاق معرفيّة نومادي_ تِسْفاري النّزوع لا يمكن أن ينتهي به الأمر إلاّ أن يكون سقراطي الأفق  فطرحت عليه السؤال . وفي ذهني ما ورد في الأوراق القديمة بكون " السّفر من الفَرَسِ " .
 _ إذا  كان جيل دولوز قد اقترح تحْويل "الشّخْص السّقراطي" من كائن شوارعي- أغُورائي إلى " شخْص مَفْهومي " . فهل من المُمْكن سَقْرطة  الفلسفة اليوم   وما هيّ شُروط إمْكان هذه "السّقْرطَة" المُمْكِنَة ؟
·     
_ في اعتقادي ليْست الفلسفة وحْدها  فقط هي التي في أحْوج الحَاجة الى إعادة السّقرطة  وإنّما جُمّاع مقوّمات التّأنْسُن تنظيرا ومُمَارسَة وحَساسيّة
لكن ما المقصود بالتّأنْسَن ؟
 المقصود هو أن لا يكون الإنسان مُعْطَى منْجزا جاهزا مُسبقا وإنّما  يكون هو ذاته مشروع ذاته .. أن يُجْهِدَ النّفس  قُصْوويّا كيْما يُصْبِحَ جَديرا بالإنْتِساب الحقيقي "للأفق اُلْإنسي" وفق لغة القُدامى..  أن يكون أصِيلا بمعنى أن يكون عند أصْل ذاته وفق  اختيار واع لكينونته في صيرورتها المُنْفَتِحَة على الدّوام .. ومفتاح ذلك أقصد السّقرطة الشاملة الحاذقة والرّهيفة والواعية  بمُستطاع وعْيها وحدود ذلك الوعي   تحديدا هو إعادة الإضطلاع الحَازم  بِحذق الطّرح  الدّائم  للسؤال ... أقصد التسلّح  بالتًسْآلية الجِّذريّة والشّاملة على الشاكلة السقراطية عبر
" حروف السؤال" وفق لغة الفارابي
( سؤال : الماهيّة ( القوام والجوهر ..) والماذيّة واللمَاذية ( لماذا ..؟)  والبِماذيّة ( بماذا ..) والهَليّة ( هل أن ... )والمَتائية ( متى ..) والكيْفية ( كيف ) و الأيْنيّة أين...؟). وهو ما كنت قد اقْترحْتُ تسميته ب "التّأْجيج والتأويج ".
- فماذا تقصد " تأجيجا" و" تَأْويجًا " بهذا  الاجْتراح  اللّغوي  ؟
·     
_ التّأجيج كِناية عن تَعبئة وتَحريك وتَعْتَعة كل مُقوّمات الإنسان السّاكن في ضياعِه المُسْتدام  والوجود  العَاصِفِ والمَعْصوف  بِه  كما هوّ كائن الآن وهُنا بما يكْتنفه من ضياع البَوْصَلة  الجَامِعة للعالم أجْمع رغم إدّعاء "ذوي النّوايا الحسنة "  إصلاح ما خَرب من الذّات البشرية والعالم ... في المحيط المُضْطرب  الذي
 اخْتَلَطْت فيه " العواصم  بالقواصم"   فتاهت الإنسانيّة بين فوضى الوسائل  والعَمَى عن الغايات  فكانت الحَصيلة : نَجَاعَةٌ فَاعِلَةٌ مَحْضَة دونَما أدنى غائيّة جديرة بكرم الوجود البَشري  أي أنّ  كلّ أبعاد الذّوات البشريّة في حاجة ماسّة الى إعادة التّرتيب والتّبويب  : رغبة وأهواء وإرادة  وخيالا وحُلما  وحوّاسا وعــقلنة وتعقّل وآمالا ومُرْتَجيَات ... إذا كان هذا هو – إجمالا مَعنى التأجيج    فإن " مفردة "التأويج"  تفيد الذّهاب بكلّ هذه الأبعاد .. أبعاد الإنسان والوجود إلى الأوْج .. إلى  أقْصى مُمْكانتها الإبداعيّة  لطافةً ورِقّة
  و شفافيّة  وبهْجَة  ورهافة و جَمَالاً ... ثمّة دائما فُرص لتأمّل الجَميل والجَليل رغم فزّاعات الحُزن  والألم المُقيم   هذا ما يعْنيه عندي  فعل التّفلسف شَهْرزاديّا  في  وجود شهرياري مُسيّجٌ بالشّهرياريّة  المسلّحة و المُعَمّمَة   لا تَسْكنه غير سطْوة "الضّرورة " و" النّدرة " والشُحّ" " والشّحْناء" وأصْناف  الاستئثار الإسْتفرادي الإسْتحْواذي الحَوْزي اللّصوصي  بَمعنى اسْتشراء ثالوث اللّؤم النّذلوتي أقصد : الفِرْعونيّة _ الهَامَانيّة _ القَارونية : "ديانة العجل الذهبي" وتسميتها  الوازنة : الرّأسمالوت سليل الكَسبوت والحَسبوت الطُّغياني  فَاحش القَسْوة على الذات البشرية وعلى الطّبيعة ... وعلى الحيّ مطلق الحَيّ .
·     
_ وكأننا إزاء الاشكالية السّارترية حول " الماهية والوجود ومُعضلة ألأسبقية  بينهما" _  رغبة من فيلسوف " الوجودية مذهب انساني "  دحْض التصوّر السّكوني اللاّهوتي للكائن البشري " ؟ . بلغة أخرى إنّها مشكلة : " الجَبر والإختيار"  و" الانسان المطبوع والإنسان المشروع  " تعود بصياغة جديدة وبِمُفْردات جديدة ؟
  فِعْلُ التّفلسف  الحقّ عندي فعل كريم في جوهره لأنّه في مساره يُــلقي التحيّة على سائر مُسَا فري الفِكْر والفنّ والعَــمَل و مُطلق الإبداع  أقصد سَنْدبَاديّيي الأفق  إذ الإنسان مُسافر في حقيقته " هومو - فِياتور"            (Homo- Viator) وقد يكون هذا التّعريف للإنسان إنّما هو أشْمل التّعريفات  لأنّه يستوعب سائر التّعريفات المعروفة من  مثل
" الانسان العاقل"  (Sapiens- Homo) و " الانسان العامل " (  Faber-Homo)  و"إنسان الجنون"  (Homo D- emens) و"إنسان اللّعب"  (Homo - Ludens) و"إنسان  الرّغبة وإنسان الأهواء "و "إنسان الكسل " و"إنسان الدّين" و"إنسان الاقتصاد"  (Homo Economicus) و"إنسان الاعتقاد" و"إنسان الرّموز واللّغة "..  و"إنسان القناع والتّمويه واللّغو" .. و"إنسان الحبّ والتّبذير والحرب" .  وفي كلمة جامعة غير مانعة
" الأومو _ فيتاور " (Homo _ Viator) إنّما    هو تعريف  يمكن أن يكون الحاضن لكلّ حالات وأحوال وتحوّلات الكائن الإنسي أو هكذا يبدو لي من  الأفق الفكري الشّاسع الجودي الذّي اقترح تحيّة العالم والوُجود الشّامل من خلاله . . وباختصار إنّ سنْدباديّة الإنسان إنّما هي أفضل استجابة لشَهْرزاديّة الوُجود التي لا يُمْكن غير أن تكون احْتفالية بالحياة ضد جنائزية الشّهريارية المَسكونة بمالينخوليا  الولادة والنّجَابَة والإنْجَاب  أصلا  . إنّي أقصد  مديح تِجْواب السّندباد وليس السّفر المحدود " لِأوليس_ أوليسيوس "  نموذج المغامرة  في الوعي الغربي كما تمثّلَه العظيم  هيجل .. ذهاب  يتيــمٌ من المكان  ورجوع   ثانيةً إلى نفس المكان   في حين  أنّ السّندباد  الشّرقي لا يكلّ ولا يمَلّ من الحِلّ والتّرْحال : إثراءً للنّفس بتصفّح  آيات كتب  الآفاق  وإثراء لهذه الآفاق ذاتها بمغامرات النّفس توْقا للحريّة والتحرّر .  ومن بين من أحَيّي صاحب كتاب " سُبل الحريّة " جون بول سارتر  الذي كنت قد شاركتُ معه في "مظاهرة باريسية" سنة 1978  وقد تقدّمت به السّنون ولم يكن قد تَاب  بعدُ عن شعاره الأثير والذي يُمثّل برنامج براكسيس _ عمَلي من واجب الفلسفة الحضاري الاضطلاع به  وشعار المِتْراس النّضالي  عنده  هو:" هناك دائما  شرعيّة للتمرّد " (On a toujours raison de se révolter) تَواشُجا تضامنيّا مع _ الكوجيطو الذي صاغه صاحب " أسطورة سيزيف " . سيزيف  الذي لا يُمْكن رغم  المِحن الا أن يكون سَعيدا . ومن أقصد غير ألبار كامو بصياغته الرّائعة الّتي  تكرّمت على الفلسفة الدّيكارتية وأخْرجتها من عُزلتها الواعيّة و الإراديّة لظروفٍ تخصّ تاريخها الخَاصّ في لحظتها التاريخيّة . فإذا تأسّست الديكارتية على سلطة " الأنا أفكّر إذن أنا موجود " فان ألباركامو قال مُسْتحضرا هذه الانطوائية التي لصاحب " أهواء النّفس " بأن صاغ من على الأرضية الابستيمولجية الدّيكارتية ذاتها  ومُتمرّدا عليها في نفس الآن .قال " أنا أتمرّد إذن فنحن موجودون " (Je me révolte donc nous sommes) وإنْ كنت أعيب على  صاحب " الوجود والعدم "  موقفه القَطْعي الحاسم من " غَثيَانيّة الوجود وعبثيّة  الحَيَاة "  واعتبار الإنسان " زائدٌ على الوجود " "بأهواء عديمَة الفائدة ." فالوجود عندي فَاتن .. فاتن  وخلاّب  .. خلّاب  وآسرٌ .. آسِرٌ   بجماله  الفَيّاض مُنجذب  الأطراف برقّة لطيفةٍ إلى "الجَليلِ والجَميل" بالمَعنى الصّوفي والكانطي. لا متناهي الخُصوبة والثّراء هو الوجود . ثرّة ثرية كَوْثَريّة هي الحَياة وكُتب الحيَاة  ؟

لكن الوجود الذي تمتدحه بكلّ هذا الكَرم الحَاتمي وبهذه " النظرة السُّبحانيّة " مَكانُ احتراب واعتوار    هو ساحات حرب مُعْلَنة وسريّة  .. وكتاب قتل ونهْب ولصوصيّة وسرقة مقنّنة" بقوانين دوليّة".. وإبادات  فرديّة وجماعيّة على " الجنس واللّون والجهة والعقيدة " وتبذير للعنف باسم " العقل " و" الديمقراطية "
و" الكرامة البشريّة " وباسم الله " وباسم "رفْعة هذه الأمّة" أو تلك  و لازمة :" خير أمّة أخرجت للنّاس "  وباسم صوابيّة هذا المشروع أو ذاك . حتى غَدَتْ كلّ فكرة قابلة للتقديس وهي الّتي تكون مدخلا لتبرير   
 العنف واذلال الانسان ذاته واحتكار الكلام باسم الله حتى أن جورج بوش الإبن ادّعَى النُبوّة أو ما يشبهها حين قوله وهو يُضمر تخريب العراق و"إرْجَاعه الى العصر الحجري  سمح للسانه بأن يقول : " لأوّل مرّة أشعر بأن الله في البيت الأبيض " . فكيف يمكن لفيلسوف الجودية الشهزادي التونسي التقصّي الجينيالوجي - الأرْكيولوجي والسّوسيو - انطروبولوجي  لهذا الفائض العنفي من العنف .. الذي يبدو لي شخصيّا أنه نابعٌ من الشّراهة العجيبة لاحْتكار المطلق  والفرض المرضي المسلّح على الآخرين  للاعتراف بالذّات الفرديّة الجماعيّة

 _ واقع الأمر اليوم أنّنا " بمَحْضر صِراع آلهة " وفق لغة ماكس فيبر .أي صراع مُطلَقات . وهو أنّه صراع وجود لا مجرّد صراع على نِسْبيّات الحُدود ولأنّه كذلك لا يمكن إلّا أن يكون  مُفرط القسوة وقُصْووي الوحشيّة المسلّحة والهمجيّة  لأنّه تغيب معه كلّ  إمكانيّة الحوار الحقيقي .وهو ما جعل السّيادة الطّغيانيّة لحوار الطّرشان  الذي يفتقر لسلطان الحكم الحقيقي الأوْحد وهو العقل.  المبدأ في كلّ احْتراب واصْطراع  وأزمة أن نَحْتَكِم للعقل ... ذلك أنّه بِصَمْت العقْل ولغة العقل ومِعيار التعقّل   يتكلم العنف  وتنْفجر كلّ طاقات التوحّش الهاجعة في صناديق " باندورا " الملغّمة بأشراره . لقد لاحظت أنك تشكو من الإفراط في استعمال كلمة العقل وحقولها الدّلالية لأنّ الكذب كما الإشْهار كما الصيّد والقنص جميعها والحرب هي من إنتاج" جلالة وسموّ العقل" وهذا صحيح لكن لنحذر الحكم المُطلق على العقل وتوديعه على طريقة صاحب كتاب " ضدّ المَنْهج " وكتاب " الابستيمولجيا الفوضوية " وكتاب " وداع العقل " أقصد بول فايرابد " .
_ فأي عقل يمكن التوسّل به للخروج من هذا الوضع الكلينيكي – السّريري- العِيادي  للعالم المَريض بإنْسَان حداثته و"مابعد حداثته" المسلحة  بأخْبَث أدوات التّفْجير النّوويّة و"البُروباغندا " والإشْهار المُدجّج بالنّوايا الحسَنة  ازاء جيوب المُسْتَهْدفين من المُسْتَهْلكين ..؟
-   الأكيدُ أنّنا اليومَ في حالة  إقَامَةٍ جبرية داخل نظام حُكم  كل عوامل الموت والإبادة والمُحتشدات  وهو ما يسمّيه حكيم "الهَرْمَاسيّات" وفيلسوف
-   " الايكولوجيا والنّقل والمواصلات "  ميشال سار " الطنا - تقراطية " التي تَعْني حَرفيّا " نظامُ حُكْم الموت ". هذا الوضع  الجبّاناتي - القَابوري - المِقبري الكوارثي  يعود رأسا  إلى اخْتزال مُمْكنات العقْل البشري الكثيرة والمُتكثّرة في مُمْكِن واحد وحيد أوحد وهو  المُمْكن الأداتي - الحسابي - الإحتسابي - القيْسي  للعقل ..المُرتهن  كليّا بالكسب والرّبح والإحْصاء والمِلكية والتّملك تُمْليها جميعها رغبة الاسْتحواذ على العَالم بكلّ مُكوّناته ومُمْكناته  وإذا علمنا أن الرّغْبة  لدى البشر إنّما هي رَغْبَة مُضاعفة  بمَعنى رغْبة في المَرْغُوب فِيه من قِبل الرّاغبين الآخرينَ  الذين يرغبون بدورهم  في المرغوب  فيه من قبل  الجماعة كما كان قد تفطّن الى ذلك المتصوّفة قبل هيجل  وفرويد  وقَبل  صاحب  كتاب " المقدّس والعنف " ريني جيرار  ومن قبلهم جميعا حكيم المِخلاة وقاطن البرميل "سقراط المجنون" "سيد الوفاء  واليقظة"  ديوجين الكلبي العظيم  فإنّ الأمر الاحترابي العُنفي سيُفسّر وفق الصّياغة التّالية:الرّغبةُ في الرّغْبة هي أساسا رغبة مُحاكاتيّة  هذا يعني أن ما يَزيد عن سبعة ميليارات من البشر اليوم يرْغبون كلّهم بصيغ مُختلفة في مَا يرغب فيه كلّهم فردا فردا وجماعة جماعة وشعبا شعبا .. والمرغوب فيه كونيّا اذن هو أنه يكون الانسان  ليس فقط " مالكا للطبيعة وسيدا عليها " وفق الحُلم الدّيكارتي وانّما أن يكون مستحوذا على الطبيعة بمن فيها وبمن عليها من سائر البشر .. وهو المستحيل عينه. وهذا النّزوع  الكُسْموفاجي ( أكل الكون )  هو مَنْبع كلّ مُمْكنات العُنف والإحْتراب  مَحليّا وكونيّا .. وداء الأدْواء وعلّة العِلَل جميعها هو ما أسْميتُه :" القردية المُعَمّمَة "  ومشتقاتها ببّغائيا واجتراريّا - بقَريّا .

هل حقّا نعيش عودة "المكبوت الدّيني" زمن التكنولوجيّات المُرسْكِلَة لأقْدم الخُرافات الّتي ابتدعها العقل البشري خلال تاريخه الطّويل والعسير ؟
ما لا شكّ فيه أنّ زمن الأزمات تعود معه كل مكبوتات التاريخ البشري لكن ليس بتَمْثيل ذاتها بذاتِها كما هي في تكوّنها الأوّل والأوّلي وإنّما فقط  ضمن مشروع استثمار مرْدودي غايته الرّبح الصّرف وبالنسبة "للعقل الأدواتي" وفق لغة يرغن هابرماس  ليس هناك مَحظور حِيال أيّ شيءٍ  طالما  هناك مرْدود أكيد لأي شيء  كما فتح مَتاجر لبيْع الأعْضاء البشرية و"بنوك" لبيع الحيوانات المَنويّة  والبويضات المُخصبّة  و" دكاكين لتسوّغ الأرْحام بِمُقابل مالي بالعُملات السّهلة والصّعبة والأكثر صُعوبة ...فيغيب  التفاضل والتّمايز بين القيم كأن يستوي " الخير والشر"  و" النّذل والأذل " و" الحريّة والعبودية " إذ ثمّة نوادي و دكاكين ما يسمونَة بكل وضوح " ساعات عبوديّة " كما تبيع  هذه النّوادي" ساعات من اليوم مخصّصة للسّباب والشّتيمة والنّميمة " وسبّ " شجارة النّسب" من قِبَل  من  بهم حرقة لذلك فاعلين ومفعول بهم . شَاتِمينَ أو مَشْتومين في إطار تَعاَقُد  تراضي مُطلق بعيدا عن منطق المَسْكَنَة .المُهمّ أن يكونوا  من القَادرين على دفْع الأمْوال فيكون ثمّة مواطن شُغل  فرص "أكل عيش" مُسْتحدثة وتتمثّل في كون  شخصية "العامل" أو "العاملة"  تتوفر  على " القابليّة " للتعْزير" و البطولة الشّمشونية – العنتريّة  على تحمّل الشّتم وإرسال اللسان في شرف عائلتها وسلالتها  ابتداء من شرف  "كُسّ أُمّها"  والى سبّ دينها ودين والديها  والسخرية من " نشيدها الوطني " واستعراض مثالب رجليها أو أذنيها مثلا  أو مؤخرتها   كما هو شأن ما يُسمَّى نوادي السّادو- مَازوشيّة " .. وقد تكون هذه المهن المُستحدثة مابعد - حداثيّا من أقدم " المِهن " في التاريخ البشري كما البغاء  أقدم الخدمات  في الحضارات غير أنّها أضحت زمن دَمَقرطة الفضيحة ونشْر الغَسيل وسقوط القيم والأقنعة " حقيقة واقعية " . فهل من  مزيد ؟
لقد شخّص السيد فيلسوف  الجودية الشهرزادي أحوال الإستعمال العنفي البُروكوستي  للعقل  في الأزمنة المعاصرة   المسكونة  "بالقارونية المالية" ومستلزماتها العُنفية  ملحا على توابعها  الإغترابيّة والمخاطر الإستبداديّة  الإباديّة لهذه النّزعة الاعتقالية للذوات البشرية وللعوالم التي يمكن أن تَطالها أرجل الإنسان المسلّح  في كلّ  الأكْوان المُمْكنة . فما هي البدائل لهذا النّمط من الكينونة الجريحة  أم سلطان التملّك الجارح   الآن وهنا 2015 ؟
 أولا :
دون هضم وإنكار حقّ هذا المُمْكن ألأدواتي للعقل كما هو كائن الآن وهنا  بقي أن الأمر يتعلّق بتحرير سائر مُمكنات العقل الأخْرى التي طالما تمّ كبْتها من ذلك حقّ الاخْتلاف الخلاّق في التأمّل بمَعنيَيْه : التّفكيرالأعْمق والأشْمل  في الطّابع اللاّنهائي لمُمْكنات الوجود نفسه بما هو " مُمْكَـيْنونَة"  أقصد الإنشداد الدائم  للأمل أي أن نرتبط عضويا بالمستقبل دون نسيان الطابع الرّهاني للراهنيّة المُهدّدة دائما بالإستثمار الباطولوجي المَرَضي للماضي للإنقضاض على الحَاضر وجَعله رهينَة عنْدهم ضدّ كل الأغيار   وهذا هو الإجرام الحضاري في حق الذّات وحق الآخر وفي حقّ الممكن البشري .  إنّه ثمّة مَهامّ فوريّة ومُستعجلة  تتعلّق بالحَاضر : كأن يقْتنع جميع الفاعلين الحَضاريين  بأن الاسْتمرار في هذا التوجّه العالمي  المسلّح  نحو الآحاديّة القطبية سليلة واحديّة الفكر و قارونية الغاية  الرأسمالية المُضاعفة إنّما هو خيار الموت والموت الجماعي المؤجل  للكلّ الحَضَاري البَشَري .هذا أوّلا .
ثانيا :
ان نتعلّم القُدرة على مَمْكَنَة  ( من المُمْكن ) وجَودَنَة
( من الجُود ) سائر مُقوّمات "التَواجد" ضِمْن المجتمع الواحد وبين سائر المُجتمعات  مجتمعة وفق صيغة تعَاقدٍ حَضاري جديد بين الأمُم يُعاد فيه اعْتِبار الإعتبار  لمقام الإنسان  قيمة القيم على الإطلاق بماهو كائن تجاوزي قادر على التّحرّر من ضيق أفق  الهويّة - الهُوّة - الهَاويّة الجَهَنّميّة التي باسم قَداستها المَكْذوبة تُرتكب اشْنع وأبْشع  وأنْكد الجرائم في أن  حين هذه " الهُويات القاتلة " وفق عبارة أمين معلوف لا تشكّل غير جُزيء ضئيل  وزهيد من الهويّة البشريّة الكونية  الشّاملة  وهي عاجزة على مجرّد الإعتراف بتعدديّة وتنوعيّة واختلافيّة  مُمْكِنات التأنْسن .هنا يكون مقام التذكير بما كنت قد أطلقتُ
 عليه " بيداغوجيا التّأجيجُ والتّأويج"  السيّاق الأعم لذلك هو واجب تكثير الحكايات و القصص والرّوايات لانهائيا  _ كما أشرت سابقا _ وهو ما تستدعيه الثورة الشّهرزادية المَحلوم بها .. أقصد الجماليّة  القصصية الشهرزادية ضد القصّة   الاقتصاصيّة العِقابيّة الشّهرياريّة .التي تَسْتند إلى رؤية إرهابيّة للتاريخ لا تعترف بأدنى تقدم له الا بسفك الدّماء وقطع الرّؤوس والتّمثيل بالجثث ... شأن نظرة ألكسندر كوجاف  في شأن ثورة " الطلاب في 68" . عندما سأله ريمون آرون عند تقييمه لها . فأجاب :" هل سقطت أرواح ...؟ وحين  ردّ ريمون آرون بالنّفي ردّ الفيلسوف  كوجاف :قائلا : " إنّه إذن لحدث تافه "

 فاين "حكيمنا الشعبي سقراط " من كلّ هذا التّرحال ؟ ألم يخنه فلاسفة  اليوم كما سبق أن خانه أنجب تلامذته ومريديه "عريض المنكبين" أفلاطون حين اشترط أن يكون للفلسفة أسْيَجَة وجدْران  ؟

إنّ سقراطيّة سقراط تنفلت من كلّ نصيّة وفكر توقيفي وثوقي أو قابل للعزل في فضاءات مخصوصة كما الأكاديميات على الطّريقة الأفلاطونية أوالمعاهد  على  الطريقة الارسطية أو أروقة الرّواقيين أو حتّى بساتين وحدائق  الأبيقوريين ومن باب الأولى والأحْرَى "منافينا الجامعية"  من ذلك مثلا نصوص كلّ من أفلاطون وأرسطوفان  تُقدّم لنا سقراطا  مُختلفا  بيد أن أروع ما في سقراط الحكيم أنّه اخترق كل هذه النّصوص والممارسات القوليّة والمؤسسات الاجتماعية  وانبرى لنا عبر العصور بما هو روح  تَحرقيّة قادرة على الإصْداع بالحقّ والحقيقة  متسلحة  جماليا وايطيقيا - أخلاقيا   بالشجاعة والسّخرية من الموت  تلك هي " البَاريزيا "  التى تحدّث عنها  باقتدار ميشال فوكو  " إنّه لكسب عجيب أن نموت " يقول سقراط جهرا وسرا  وضمنيّا " انه لكسب عجيب أن نموت من أجل حريّتنا واستقامتنا في مدينتنا وأن لا نخالف قوانينها وإن هي قادتنا إلى حتفنا  "  .
 كيف تسنّى لسقراط أن يكون الأوحد الذي دعا الى احترام واحتراميّة "قوانين المدينة" التّي أدانته وحكمت عليه بتجرّع الشّوكران _ السَمّ وهو شيخ في السّبعين ..؟
لقد تعلّمنا من  سقراط أن نتفلسف خطريّا  بأن نقول الحقّ ولو في سياق خَطَرٍ حقيقي فِعلي وليس  خطر افتراضي لذلك كان سقراط عظيما فيلسوفا حكيما  بحكمة إنسانيّة تعي بحدود وعيها ... غير إدّعائية  ولا هي غوغائية  . وليس صدفة أن تمتدّ السقراطية في مدارس أخرى كما  لدى حكيم مصباح منتصف النهار  ديوجين  الكلبي الذي ورث عن سقراط مقدرة على الإدهاش والاندهاش  وتخْجيل  المتطاوسين  ومقاومة الحربائية الاجتماعية بفعل ما يفلعه هو جهارا لما يرتكبونه هم سرّا  في الليل .. ليذكّرهم بأنّه يَعْرفُهم وبمقدوره إسقاط القناع عن شخوصهم وشخصيّاتهم المتلوّنة وفق نظام المَصلحة الأنانية الفاحشة  عندهم . إنّ الدّرس السّقراطي في الآن التونسي يكمن في  إعادة الإعتبار للمدرسة والدّرس .
·     
ودعت صاحبي الفيلسوف الإرتوازي – الشهرزادي   الأروع  مصطفى كمال فرحات وقد ارهقته بأسئلتي  و لم يرهق شراهتي لأجاباته الشيّقة     بعد ساعات طوال  من السّفر الذي هو  من" الفرس " و" الفراسة"   وسرّحت الخُطى دون أن تفارقني صورة  الفرسين  - المُهْرين الجميلين  مقطوعي الرأس  وسمعتني أردّد كما الغائب عن نفسه  أقول لي :

صادقٌ صدَق هُوّ  المنُاضِلُ الحَضاري  الكبير عبد الوهاب المسيري حين قوله :" إن مَنْ لاَ يَمْلك مشروعًا حَضاريّا  يتقدم بخُطى حَثيثَة الى مزبَلة التّاريخ ".  تَحيا تُونس على كلّ حالٍ  سيّدة حُرّة من سيّدات التاريخ الحَضاري للأُمَم .. ونَحْن لَهَا   وهْي لنَا جميعنا  رغْم  الألم .  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

محرك البحث